استقرار سورية المدخل إلى استقرار المنطقة
كان من البيّن منذ البدايات أن إيران وروسيا كانتا قد صممتا على منع سقوط نظام بشار الأسد، وتقديم الإسناد له في حربه المفتوحة التي أعلنها على الشعب السوري الذي اعتقد أن ما يُسمى بالعالم الحر لن يتركه وحيداً في مواجهة أكثر الأنظمة الاستبدادية بدائية ودموية، وأكثر الأحلاف خبثاً ونفاقاً. فقد كان شعبنا الطيّب يثق بالوعود التبشيرية الخاصة بقيم الديموقراطية والمساواة واحترام الإنسان كإنسان قبل أي اعتبار آخر. ولم يكن يدري أنه في عالم المصالح لا مكان ولا اعتبار لكل ذلك. ولكننا تعلّمنا من كيسنا كما يُقال، وأصبحنا على دراية تامة بأننا كنا ضحية تقاطع الصراعات، وتناقض المصالح والاستراتيجيات. وقد تأخرت القوى الإقليمية الأساسية التي أعلنت عن دعمها ومساندتها لمطالب وتطلعات الشعب السوري المشروعة في التنسيق في ما بينها، وظلّت كل واحدة منها تعمل بمفردها، وبناء على حساباتها المعهودة من دون أن تأخذ بعين الاعتبار الواقع الجديد، وتحدياته غير التقليدية.
فقد اختلفت القوى الإقليمية الصديقة للشعب السوري حول الأولويات في ليبيا ومصر واليمن، الأمر الذي لم يمكّنها من الوصول إلى التوافق المطلوب بخصوص الوضع السوري، وهذا ما انعكس سلباً على واقع توحيد وتنظيم وتفعيل العمل المعارض ببعديه السياسي والعسكري، وذلك بعد أن تمكّن النظام من فرض العسكرة على ثورة الشعب السوري، التي استمرت سلمية نقية، تجسّد أحلام السوريين والسوريات من سائر المكوّنات على مدى ثمانية أشهر أو أكثر.
وقد استطاع النظام وحلفاؤه – نتيجة واقع عدم التنسيق بين أصدقاء الشعب السوري، وتبعات ذلك التي تمظهرت في صورة أساسية في الفوضى الميدانية – من استغلال الأخطاء، والبناء عليها، بل إدماجها مع استراتيجيته الأساسية التي اعتمدها من بداية الثورة، وهي التي كانت تتمحور حول فكرة الربط بين الثورة السورية والإرهاب، وإظهار النظام الحليف لنظام ولاية الفقيه في إيران، ولـ «حزب الله»، في مظهر «النظام العلماني المدافع عن قيم العصر، الضامن لحقوق الأقليات بخاصة الدينية والمذهبية منها».
وعلى مدى خمسة أعوام، كان حلف النظام يراهن على إخضاع الشعب السوري من خلال استخدام كل أشكال الإرهاب بحقه. فقد استخدم الطائرات والأسلحة الكيماوية، واعتمد أسلوب القتل الوحشي الجماعي بحق السجناء، كما اتخذ من الاغتصاب والتجويع والحصار سلاحاً، وأقدم على ارتكاب المجازر بحق الأطفال والنساء والشيوخ. وحينما تبيّن لهذا الحلف أن النظام على رغم كل ذلك يتراجع ويتهاوى، جاء التدخل الروسي، ليؤكد مجدداً أن الساحة السورية باتت ساحة تعارض المصالح والإرادات والحسابات، ولم يعد لتطلعات الشعب السوري – إن لم نقل لوجوده – أي اعتبار.
المنطقة تعيش زلزالاً سياسياً عنيفاً، ستكون نتائجه كبيرة على صعيد الجغرافيا والديموغرافيا وإعادة صياغة المعادلات والكيانات الإقليمية. نتائج آنية بدأت مظاهرها تلوح في المنطقة بأسرها، وأخرى مستقبلية تتمظهر في عقود من الصراع وعدم الاستقرار.
التعطّش الإيراني لبلوغ مرتبة القوة الإقليمية العظمى هو في الذروة، وهو تعطّش مبني على واقع الخلل الشمولي الذي تعاني منه دول المنطقة التي لم تتمكّن من حلّ قضاياها المجتمعية، وأخفقت في طمأنة أجيالها المستقبلية. وما عزّز هذا التعطّش، وأسهم في توحّشه غير المسبوق واقع الخلل في المعادلات الدولية بفعل سياسة اللاقرار التي اعتمدها الرئيس أوباما في مواجهة قضايا المنطقة، وذلك بناء على حسابات ربما تتضح معالمها في وقت آخر، ولكن بعد أن حلّ الخراب في المنطقة، وباتت الهجرة نحو الشمال المبتغى للسواد الأعظم من شعوبها.
أوضاع المنطقة في صورة عامة لا تبشّر، وما يستشف من المعطيات هو أن الصراع سيستمر، بل ربما يشتد، وتتسع رقعته، هذا ما لم تتخذ القوى الإقليمية المتضررة من الاجتياج الإيراني إجراءات ملموسة لمواجهة التحديات، والآمال في هذا المجال معقودة على تحالف متين سعودي – تركي كمحور أساسي، تتمفصل حوله القوى الأخرى الفاعلة في الإقليم ومنها: قطر والإمارات واقليم كردستان العراق والأردن والكويت. أما مصر فهي على رغم أهميتها وضرورتها تعيش محنتها نتيجة أوضاعها الداخلية الخاصة بها، ولكن لا بد من مساعدتها، وتمكينها من الخروج من مأزقها عبر حوار وطني شامل، حقيقي مسؤول بعيد عن الحلول الراديكالية الوحيدة الاتجاه.
المواجهة مع النزوع الإيراني إلى الهيمنة لن تكون سهلة، لأنه قد تمكّن من التغلغل في عمق مجتمعات المنطقة نتيجة اعتماد استراتيجية الخلط بين المذهبي والسياسي، ونجح في تجييش البسطاء عبر شعارات المقاومة والممانعة. كما أنه قد استطاع بنهجه الذرائعي الفاقع استغلال قضايا المنطقة بخاصة الفلسطينية والكردية منها. وهذا كله يستوجب وجود استراتيجية متكاملة، تكشف واقع التزييف الذي يمارسه النظام الإيراني، وتصادر على متاجرته بقضايا المنطقة من خلال طرح الحلول الواقعية لها، وتوفير الآليات الكفيلة بحلها.
الأحداث تتسارع وتتشابك. وقد جاءت الخطوة السعودية الخاصة بقطع العلاقة الديبلوماسية مع إيران، لتؤكد وجود جدية غير عادية في مواجهة مخاطر السياسة الهوجاء التي يعتمدها النظام الإيراني؛ وهي سياسة تهدّد المنطقة بأسرها، بما فيها إيران نفسها.
وتبقى سورية مفتاح الحل ومقدمة الاستقرار في المنطقة، سورية الخالية من بشار وزمرته المسؤولة عن كل هذا القتل والخراب والتهجير والمعاناة.
عبد الباسط سيدا