في أسباب انعطاف سياسة أنقرة …
أكرم البني
أربع نقاط يمكن التوقف عندها لتفسير الانعطافة المزدوجة للسياسة التركية، نحو تطبيع العلاقة مع إسرائيل وتجاوز ما وضعته من اشتراطات لقاء ذلك، ونحو إصلاح العلاقة مع روسيا والرضوخ لمطلب موسكو بتقديم اعتذار صريح عن إسقاط طائرة السوخوي أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) المنصرم.
أولاً، يأس أنقرة من استنهاض موقف غربي داعم لسياستها في الصراع السوري، حيث استمر رفض الأميركيين والأوروبيين توفير مظلة سياسية وعسكرية لحظر جوي أو لمناطق آمنة، ولم تتراجع ثقتهم بالأكراد السوريين ودعمهم بصفتهم شريكاً رئيساً في مواجهة تنظيم» داعش».
ويصح القول أن الحكومة التركية قد استنفذت كل محاولاتها لإقناع حلفائها بخطر نفوذ الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني وسيطرته على حدودها الجنوبية، وباتت مستعدة لتقديم تنازلات لروسيا وإسرائيل في رهان على تعاونهما لحماية أمنها القومي وتلافي هذا الخطر، وعبرهما للضغط على واشنطن لتليّن موقفها الداعم بشدة للدور الكردي في الصراع السوري.
ثانياً، الاطمئنان التركي لسقف التدخل الروسي في سورية بعد قرار موسكو وقف عملياتها الحربية وسحب القسم الأكبر من قواتها، وبعد وضوح دور الكرملين في دعم خطة أممية للحل السياسي، والضغط على النظام السوري للموافقة على مفاوضات جنيف وهدنة وقف الأعمال العدائية، زاد الأمر وضوحاً ميل موسكو نحو تثمير نتائج تدخلها العسكري في سورية بفتح الباب لعقد تحالفات جديدة في المنطقة تؤكد دورها كقوة كبرى مؤهلة للمشاركة في معالجة أزمات الشرق الأوسط ومشكلاته.
ثالثاً، يبدو أن أنقرة، وبعد التداعيات السياسية لثورات الربيع العربي، إن لجهة تراجع الاهتمام الشعبي بالقضية الفلسطينية وإن لجهة تنامي التطرف الإسلاموي الجهادي وهزيمة الإسلام السياسي في غير بلد، قد أدركت أن صلاحية الاستثمار في المظالم الفلسطينية واللعب بورقة غزة و «حماس» قد انتهى، وأنه لم يعد ينفعها، لكسب الرأي العام العربي والإسلامي، الظهور بمظهر الدولة التي تتحدى الغطرسة الصهيونية وتتباهى بأنها أوفى نصير للشعب الفلسطيني وكفاحه الوطني.
رابعاً، ثمة حاجة اقتصادية ضاغطة على الحكومة التركية للانفتاح على روسيا وإسرائيل، تهدف لاستعادة التبادل التجاري الكبير والمميز مع البلدين، وضخ النشاط في قطاع السياحة الذي تحتل إيراداته موقعاً مهماً من الدخل القومي.
لكن ما كان للأسباب السابقة أن تفعل فعلها لدى حكومة أنقرة وتدفعها لتلك الانعطافة السياسية لولا النهج البراغماتي الأصيل لحزب العدالة والتنمية، وتاريخه المفعم بتوظيف مختلف الأوراق والوسائل من أجل الاستمرار في حيازة السلطة واحتكارها، حتى وإن كانت هذه الأوراق والوسائل عارية عن القيم والمبادئ وعن المقاصد الدينية ومتعارضة مع ما يرفعه من أهداف وشعارات، وحتى لو كان ثمنها غض النظر عما يجرى من فتك وتنكيل من جانب السلطات الاستبدادية أو الجماعات الإسلاموية، وطبعاً ليست قليلة المحطات التي عدل فيها حزب العدالة والتنمية سياساته، مبتعداً عن الثوابت التي جاهر بنصرتها، وسالكاً دون خجل أو تردد طريق الأنانية وتغليب المصلحة الخاصة، وما سرع انعطافته اليوم اضطراره لإعادة بناء صلاته الدولية وتحالفاته الإقليمية في ظل انحسار قدرته على التحكم بقواعد اللعب مع تنظيم «داعش»، الذي حين استشعر ببدء تضييق أنقرة على طرق إمداده ونشاطاته، لم يتردد في تنفيذ عمليات إرهابية طاولت غير مدينة تركية، وآخرها تفجيرات مطار أتاتورك التي بدت أشبه بإعلان حرب وقطيعة نهائية بينهما.
فيما مضى، وعلى النقيض من الإجماع الدولي، بدت حكومة العدالة والتنمية كأنها المتفهم الوحيد لصعود تنظيم «داعش» والأقدر على التعاون معه، لم يقف الأمر عند إطلاق سراح ديبلوماسييها بعد احتلاله الموصل، أو استجرار النفط منه والصمت عن جرائمه، بل وصل إلى تسهيل مرور آلاف الجهاديين للالتحاق به عبر حدودها، ثم رفض الانضواء في التحالف الدولي والتهديد بمنع طائراته استخدام قاعدة أنجرليك، لكن السحر انقلب أخيراً على الساحر، وفشل رهان أنقرة على استثمار ما يحدثه تنظيم «داعش» من تغييرات على الأرض لتحسين نفوذها الاقليمي ومحاصرة الحضور العسكري الكردي، لتجد نفسها وجهاً لوجه في حرب ضروس ضد هذا السرطان الإرهابي.
يبدو أن السباق قد انطلق للقضاء على «داعش» كمدخل لحجز موقع في خريطة التوازنات والتسويات القادمة، ويبدو أن هذا التحدي سيكون العامل الأساس في تحديد هوية السياسة التركية الجديدة، فهل تنجح انعطافة حزب العدالة والتنمية في تخفيف أزمته وتمكينه من استعادة هيبته وثقة الآخرين به؟! وهل تمهد لتعديل دوره تجاه أزمات المنطقة والصراع السوري تحديداً، وعلى الأقل، دعم هدنة لوقف إطلاق النار، تأخذ في الاعتبار المصلحة التركية بتحجيم حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي وتغليب الوزن العربي في قوات سورية الديموقراطية، كما المصلحة الروسية بالفرز الواضح بين فصائل المعارضة المعتدلة والجماعات الجهادية المتطرفة؟!
صحيح أن أحزاب الإسلام السياسي، تحدوها شدة الولاء الأيديولوجي للتجربة التركية وقادتها، لم تتأخر في وضع الأعذار والمبررات لتلك الانعطافة السياسية وتحميل مسؤوليتها لتآمر جهات خارجية أو لتعقيدات الصراعات الدموية في المنطقة، وصحيح أن ثمة نقطة مضيئة لحكومة أنقرة في استيعاب ثلاثة ملايين لاجئ سوري على أراضيها، وتوفير شروط حياة لائقة لهم مقارنة بالبلدان الأخرى، ولكن الصحيح أيضاً أن هذه الانعطافة بدت عند الغالبية أشبه بالصدمة والانقلاب، ربما لأن إعلانها كان سريعاً ومفاجئاً من دون مؤشرات أو مقدمات، وربما لأنها جاءت على نقيض صارخ مما تجاهر حكومة أنقرة به، أو مما كان ينتظر منها.
أخيراً، وبعيداً عن عبارات التبرير والانزعاج والاستغراب والتخوين، ربما يصح الاستنتاج بأن الخاسر من الانعطافة التركية هو نهج الحروب وتسعير الصراعات وإلغاء الآخر، والرابح تقدم الحقل السياسي وروح المشاركة في معالجة أوضاع مأسوية باتت أحوج ما تكون إلى مثل تلك الانعطافات للتحول عن مستنقع الدماء وجحيم العنف.