حول “اسرائيل الثانية”
علي العبد الله
من بين الأوصاف التي أطلقها معارضون سوريون، وهي كثيرة، على الطموحات والمطالب الكردية يبقى وصف “اسرائيل الثانية” أكثرها جهلا وغباء لتناقضه الصريح مع التاريخ والواقع معا. فالكرد ليسوا وافدين من أكثر من 83 دولة، كما هو حال اليهود الذين جمعتهم الحركة الصهيونية، بدعم وتواطؤ غربي، من كل بقاع الارض وأقامت لهم دولة اسرائيل على أرض فلسطين. انهم شعب من شعوب المنطقة وجزء أصيل من تاريخها الاجتماعي والسياسي.
لن نعود الى التاريخ القديم، الذي تشوبه شبهات وخلافات بسبب تعدد السرديات، لنقدم كشف حساب عن الشعوب والحضارات التي عرفتها منطقة غرب آسيا بل سنكتفى بالتاريخ القريب نسبيا ونبدأ بما أورده الاستاذ محمود الألوسي في تفسيره “روح المعاني” عن وجود الكرد في منطقة جلولاء قرب الموصل، حيث كشف وصول الجيوش الإسلامية عام 16 هجري الى هذه المنطقة عن وجودهم، رد معارض من اتباع المدرسة القومية على هذه الحجة باستخفاف مدهش بالقول “شويت رعيان”، وكأن هؤلاء “الرعيان” الكرد ليسوا تعبيرا عن تكوين اجتماعي عرقي او قبلي، وان وجودهم امتداد لهذا الوجود وتعبير عنه، وأنهم ليسوا فطرا نما في الظلام، وان كونهم “رعيان” لا يلغي جوهر الحقيقة، لان ثمة مستويات للتعبير الاجتماعي بين المستوى الحضاري ونمط العمل السائد في كل مرحلة وبين تشكل نويات الكيانات القومية في مراحل تكونها من الاسرة الى العشيرة فالقبيلة فالشعب والامة، وقد كان ذلك الاحتكاك بداية دخول الكرد في صلب التاريخ الإسلامي وتحولهم الى جزء من رعايا دولة الخلافة.
هنا لابد من الاشارة الى مفارقة غريبة ترتبت على سردية بعض الاحزاب الكردية التي تنتقد الإسلام باعتباره سلطة “استعمارية” قضت على الكيان السياسي للامة الكردية، سردية بعيدة عن منطق التاريخ لان نمط الدولة في المرحلة التي ظهر فيها الإسلام ودخله الكرد كان امبراطوريا وقاعدته الرئيسة حق الفتح، فأرض الدولة، ورعاياها، تحدده قدرتها العسكرية على الفتح، حق ظل ساريا حتى ألغته عصبة الامم في القرن العشرين، ناهيك عن انه لم يكن للكرد كيان سياسي خاص في تلك المرحلة (كانوا إما جزءا من الامبراطورية الفارسية أو الامبراطورية البيزنطية ومدنهم معروفة وكثيرة: بَندَنيجينْ اشتهرت بـ مَنْدَلي، حَلْوان، قرْمَسين/كِرْمانْشاه، وشَهرَزورْ، ونَهاوَنْد، ودينور، ضمن الامبراطورية الفارسية، وآمد/دياربكر، وأَربِل، ضمن الامبراطورية البيزنطية)، واندماجهم في الحياة الثقافية والسياسية الإسلامية، حيث ظهر بينهم رواة حديث، كأبان الذي نقلت كتب الحديث بعض رواياته(ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج6، ص345، وابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، ج1، ص376، ومحمود الآلوسي: روح المعاني، ج26، ص103) وفقهاء ومفكرون وسياسيون ساهموا في الصراع الفكري والسياسي الذي عرفه تاريخ الخلافة الإسلامية المديد، وقد ورد ذكرهم في كتب التاريخ الإسلامي بوصفهم كردا(تاريخ الرسل والملوك للطبري، والكامل في التاريخ لابن الاثير، والبداية والنهاية لابن كثير، ومروج الذهب للمسعودي، وفتوح البلدان للبلاذري، والعبر لابن خلدون)، كما اوردت كتب التاريخ مشاركتهم في الصراع السياسي ايام خلافتي عثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب(انظر كتاب الكاتب الارمني أرشاك بولاديان: الأكراد من القرن السابع إلى العاشر الميلادي).
لقد غدا الاندماج الكردي في الاجتماع الإسلامي، بدخول معظمهم في الدين الإسلامي واعتمادهم العربية في التأليف، باعتبارها صنو الإسلام، وتبني الحرف العربي في الكتابة باللغة الكردية، كاملا.
وقد أنشأ الكرد إمارات عديدة استمرت لعقود حيث قام كريم خان زادة، زعيم قبيلة الزندية، بقيادة حركة استقلالية ضد الدولة العثمانية، وأقام كيانا خاصا من عام 1753-1779م.
وفي عام 1833 قاد محمد باشا الراوندوزي المحاولة الاستقلالية الثانية بعد أن كوّن من العشائر الكردية جيشا من ثلاثين ألف مقاتل، وكاد أن يهزم الدولة العثمانية التي جردت جيشا جرارا لإخماد ما أسمته “الثورة الكردية”، واستخدمت الدين لتثبيط همة المقاتلين حيث تمكنت من إقناع قادة العشائر الكردية بعدم مشروعية قتال سلطان المسلمين، فانفضوا من حوله ما دفعه إلى الاستسلام للجيش العثماني ونهاية المحاولة.
وفي عام 1840 -1843 قاد الشيخ عبيد الله الشمزيني، الملقب بالنهري، حركة استقلالية بعد أن استطاع توحيد رؤساء العشائر وإقناع عدد كبير من القبائل الكردية بالانضمام إليه خالقا أكبر إجماع كردي إلى ذلك الوقت. وقد سيطر على مساحات واسعة من أرض كردستان في تركيا وإيران بين بحيرة أروميا (إيران) وبحيرة وان (تركيا) معلنا توحيد كردستان. وقد أرسل رسالة إلى ممثل بريطانيا في نشخال (تركيا اليوم)، اعُتبرت أول وثيقة قومية في التاريخ الكردي، جاء فيها:” إن الأمة الكردية أمة قائمة بذاتها وزعماء كردستان- سواء الخاضعين للأتراك أو الفرس، وسكانها، مسيحيون ومسلمون، متحدون ومتفقون على عدم قبول الأمور على شكلها الحالي مع الحكومتين الفارسية والتركية، أننا نريد أن نحكم أنفسنا بأنفسنا”.
وقد قاد انهيار السلطنة العثمانية، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، الى انفصال أغلب الشعوب والقوميات التي كانت خاضعة لها كالعرب والألبان والبلغار واليونان والأرمن. إلا الكرد لم يثوروا في هذه اللحظة التاريخية، لذا لم يحصلوا على حقوقهم القومية كأمة، حيث لعب وجودهم، ولعقود طويلة، في قلب الصراع العثماني الصفوي الروسي، ومشاركتهم الكبيرة في الدفاع عن أرض السلطنة، دورا مركزيا في حضور الأخيرة المكثف في مناطقهم، وهذا جعل علاقتهم بالمركز قوية ألغى احتمال انشقاقهم أو انفصالهم عنه آنذاك.
تضمنت معاهدة سيفر 1920 إعطاء الكرد في تركيا حق تقرير المصير، وكان ذلك أول اعتراف دولي بوجود شعب كردي وبحق هذا الشعب في تقرير مصيره، وفي ضوء ذلك نشأت “لجنة الاستقلال الكردي” عام 1923 وبدأ الشيخ سعيد بيران بتحريض الكرد على الوحدة من أجل تحقيق الاستقلال، ومواجهة الأعداء الذين يمنعونهم منه، ولكن اتاتورك عاملهم بوحشية وسحق حركتهم بمساعدة فرنسية عام 1925. ولكن ثورات أخرى قامت، في آرارات عام 1930، وفي درسيم 1936، سحقت هي الأخرى، وأحزاب جديدة، حيث نجح اجتماع قيادات سياسية كردية عقد في بلدة بحمدون اللبنانية عام 1927 في تشكيل حزب حديث: خويبون أو الاستقلال بقيادة جلادت بدرخان.
وفي إيران استطاع إسماعيل آغا (سيمكو) أن يقود حركة سياسية كردية بين 1923-1925 وأن يسيطر على كل المنطقة الكردية غرب بحيرة أروميا، ونسق مع الشيخ محمود البرزنجي في السليمانية (كردستان العراق) وحققا نجاحات كبيرة أخافت الانكليز الذين تحركوا ونجحوا في سحق الثورة.
وقد اندلعت ثورة أخرى في عام 1930 بقيادة جعفر سلطان، ولكنها ظلت محدودة الأثر والمدة.
وفي عام 1944 تشكلت المنظمة الكردية “جمعية الاحياء الكردي” والتي مهدت لقيام الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران, الذي استطاع إقامة جمهورية “مهاباد ” (جمهورية كردستان الديمقراطية) عام 1946، دولة حكم ذاتي داخل إيران، لكن السلطات الإيرانية رفضت الاعتراف بالجمهورية والتفاوض معها، وتمكنت من القضاء عليها وبسط سيادتها على المنطقة بعد تخلي السوفيات عنها في اتفاقية يالطة.
أما في العراق فقد جابه الكرد بقيادة الشيخ محمود البرزنجي القوات البريطانية الزاحفة على منطقة الموصل عام 1918, ولكن القوات البريطانية سحقت القوات الكردية البسيطة التسليح واعتقلت الشيخ البرزنجي ونفته إلى خارج البلاد، إلا أن التطور في ساحات الحرب العالمية الأولى أجبر البريطانيين على إعادته والتفاهم معه بأن يحكم السليمانية، ووعدته بدولة مستقلة للكرد بعد انتهاء الحرب.
غير أن بريطانيا نكثت بالوعد وأتت بالملك فيصل بن الشريف حسين لحكم العراق بعد أن ضمت السليمانية والموصل إلى بغداد والبصرة وكونت منها مملكة جديدة بحكم عربي وراثي.
ثار الكرد مجددا بقيادة الشيخ محمود البرزنجي في عام 1923, ولكن بريطانيا استخدمت الطائرات في قصف المدن والقرى الكردية، وانتهت الثورة عام 1924.
وفي عام 1930 تجمع الكرد أمام سرايا الحكومة في السليمانية احتجاجا على ما آلت إليه الأمور، وتحول التجمع إلى حركة شعبية شاملة، ضمت المثقفين والطلبة والحرفيين والفلاحين ورجال الدين ورؤساء العشائر.
عاد الشعور القومي الكردي مع انقلاب بكر صدقي (الكردي) عام 1937 إلى التصاعد فتشكل حزب “الأمل” عام 1939 وهدفه المطالبة بالحكم الذاتي في إطار الدولة العراقية. بقي هذا الحزب متماسكا حتى عام 1943، حيث اختلف قادته على التحالف الخارجي مع الاتحاد السوفياتي أم مع بريطانيا، فانقسم عام 1945، ونشأ عن التيار السوفياتي حزب “الخلاص” الذي تحول في ما بعد إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني عام 1946.
وفي سورية تشكل الحزب الديمقراطي الكردستاني(البارتي) عام 1957 للدفع بالمطالب الكردية الى الواجهة والعمل على تحقيقها، وقد زادت سياسات الانظمة المتتالية فيها(الحرمان من الجنسية في ضوء نتائج الإحصاء الاستثنائي 5/10/1962 حيث غدا 70 ألف نسمة منهم من دون جنسية (أصبحوا مع مرور الوقت حوالي الـ 300 ألف نسمة)، وتطبيق فكرة الحزام العربي عام 1966 باخراج آلاف الأسر الكردية من أرض تملكها او تستثمرها بوضع اليد وتوزيعها على أسر عربية نقلت إليها من المنطقة التي غمرتها بحيرة سد الفرات) في تعقيد الوضع الكردي فيها وتصعيد الصراع حول الحقوق وطبيعتها والحل المناسب لتلبيتها.
لقد جرت بين تركيا والعراق وايران وسوريا اتصالات وعقدت اجتماعات على أعلى المستويات للحيلولة دون التعاون بين الفئات الكردية الفاعلة سياسيا وعسكريا وللحيلولة دون إنشاء دولة كردية مستقلة. لم تستطع هذه الدول إقناع الكرد، عبر المعاملة الدستورية والقانونية العادلة، أنها دولهم، وأنهم جزء من شعوبها، لهم كامل الحقوق مثل كل المواطنين مع احترام خصوصيتهم القومية والثقافية، مع إعطائهم حق التعبير عنها في الممارسة اليومية، ولا القوى الدولية النافذة نظرت إلى القضية الكردية من زاوية المصلحة الكردية وحل النزاعات الإقليمية بتحقيق طموحات شعوب المنطقة في حياة آمنة مستقرة. وهذا حول الكرد الى أسرى التوازنات الإقليمية والدولية، التي تفرض عليهم شروطها، فقد وعدوا بدولة من قبل فرنسا(1921) وبريطانيا(1922) والولايات المتحدة (1944 روزفلت، 1973 كيسنجر ) ولكن كل ذلك لم يحصل. وغدت هذه الدول أسيرة القضية الكردية، تفجرها القوى الخارجية عندما يكون لها مصلحة في تفجيرها، وتتجاهلها بعد أن تحصل من هذه الدول على مطالبها وخدمة مصالحها. وقد زاد الطين بلة عدم تفهم شعوب هذه الدول، بما في ذلك معظم أحزابها السياسية ومثقفيها، للتطلعات الكردية ونفورها من مطالبهم، ما رتب استعصاء سياسيا واندفاعا الى مواجهة صفرية لا تفيد أي من اطراف الصراع المحليين، بل على العكس تدفعهم للوقوع في مخططات قوى خارجية لها اطماع في خيرات المنطقة وموقعها الاستراتيجي.
هذه بسطة أولية كافية لتؤكد اننا لسنا أمام “اسرائيل ثانية”، وأننا أمام شعب أصيل وقضية عادلة تستدعي التعاطي معها بايجابية لان في حلها مصلحة للجميع.
مدار اليوم