خيارات السوريين بين الموت والهزيمة أو حلب
سميرة المسالمة
يقف السوريون اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما حرب تستمر بين كل الأطراف المتصارعة على سورية وداخلها، أو خيار تتوافق عليه القوى الكبرى، يوقف الإمداد للقوى المتحاربة، وينهي الصراع المسلّح، وفي كلا الأمرين يبدو العامل السوري مهمشاً إن لم يكن غائباً تماماً عن التفاهمات الدولية وعن طاولة المفاوضات التي تعقد هنا أو هناك بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وتحت غطاء أممي في بعض الأحيان.
واضح أننا إزاء خيارين لا يتناسبان مع تضحيات الشعب السوري وطموحاته. فالسيناريو الأول الذي يقوم على استمرارية الصراع، يؤدي إلى إطالة أمد الأزمة والمزيد من الخراب في الدولة والمجتمع السوريين، وهذا أمر لا يبالي به النظام، الذي أشهر منذ البداية شعار: «سورية الأسد أو نحرق البلد»، وقد ترجم ذلك عملياً بتحويله معظم مدن سورية إلى حقل رماية لبراميله المتفجرة وصواريخه ومدفعيته، وبتشريده ملايين السوريين، فضلاً عن فتحه البلد على مصراعيه أمام نفوذ نظام إيران والميليشيات اللبنانية والعراقية التابعة له، وأمام الوجود العسكري الروسي.
أما الذين ينادون باستمرار الصراع بالوسائل العسكرية، من المعارضة، فهم يتذرّعون باعتبارهم أن كل الخسائر المترتبة على هذا الخيار قد دفعت، وأن مزيداً من الضحايا مقابل انتزاع السلطة من نظام يقتل شعبه هو أقل ما يجب عمله، للرد على أي مساومة تتحدث عن إعادة إحياء نظام الأسد. ولنقل إن الشعب السوري ربما يتقبّل مثل هذا الطرح عندما تقدمه قوى فاعلة على الأرض تذود عن خيارها النضالي بأرواحها وأرواح عائلاتها قبل الآخرين، لكن ما يحدث يبيّن أن معظم المتحدثين هم خارج الأراضي السورية ويعيشون في أمان مع عائلاتهم، والحديث عن تضحياتهم حتى آخر طفل يبقى مجرد شعار يساوي شعار النظام الذي يزجّ بأبنائنا في حرب مجنونة دمرت سورية مدناً وشعباً ومستقبلاً. والأهم، أن الذين ينادون باستمرار الحرب حتى آخر طفل هم طبعاً غير قادرين على مدّ المعارضة المسلحة بالمال والسلاح اللذين يمكنانها من الصمود أمام آليات النظام والقوى العظمى المساندة له بسلاحها الجوي وقوة قرارها الدولي.
على ذلك، فإن السيناريو الأول يتلخّص باستمرار الواقع الراهن، أي استمرار التصارع على سورية، بين القوى الدولية والإقليمية والمحلية، وتالياً استمرار حال القصف والقتل والحصار والتشريد، والإبقاء على صيغة لا غالب ولا مغلوب، بعدم السماح لأي طرف بالغلبة على الطرف الآخر. ولا شك في أن هذا السيناريو من شأنه إطالة عذابات السوريين، وتفاقم حال الخراب للدولة والمجتمع في سورية، ومزيد من الاستقطاب الطائفي، والتغييرات الديموغرافية فيهاً. أيضاً هذا السيناريو يصب في مصلحة القوى الدولية والإقليمية التي تسعى إلى خراب المشرق العربي أو لا تبالي به، لا سيما في أهم بلدين فيه، أي سورية والعراق، كما أن هذا الوضع يؤدي إلى خدمة إسرائيل. إذ لا شك هنا في أن إسرائيل هي المستفيدة من استمرار هذا الخيار، وهذا ما يفسر موقف الولايات المتحدة، اللامبالي واللامسوؤل مما يجري.
أما السيناريو الآخر والمتوقع من الدول الكبرى ومن مجموعة دول أصدقاء الشعب السوري، التي ثبت عجزها عن أي فعل حقيقي لمصلحة الثورة، فيتمثل بوجود نوع من توافق على الحل في سورية. لكن يجب أن يدخل في علمنا، أن الولايات المتحدة الأميركية، من موقع مكانتها العالمية وقدراتها وتأثيرها، هي التي ستحسم لحظة الوصول إلى هذا الحل وشكله، مع إشراكها هذا الطرف او ذاك وفق حجمه ودوره ومكانته. لذا، فإن التسريبات عن نضوج توافق أميركي ـ روسي في خصوص سورية، تؤكد مجدداً أن تقرير وضع النظام السوري ومصير السوريين بات في أيدي القوى الخارجية الدولية والإقليمية، وأن ملف سورية بات في يد روسيا على حساب إيران، وذلك باعتراف الولايات المتحدة، أي أن ذلك سيفضي إلى تحجيم مكانة إيران في سورية، وتقزيم دورها في تقرير مصير هذا البلد، وربما نشوء نوع من التباين بينها وبين الطرف الروسي، على هذه الخلفية.
مع ذلك، يجدر الانتباه الى أن تحقّق هذا الخيار قد يتم فرضه بالطرق السياسية أو بواسطة القوة العسكرية، أو بدمج الوسيلتين معاً، لا سيما إذا ظهرت قوة معينة، مع النظام أو مع المعارضة، تحاول عرقلة هذا الحل.
إزاء هذين الخيارين اللذين لا يتناسبان مع تضحيات معظم السوريين وطموحاتهم، يفترض بقوى المعارضة السورية وبمختلف تسمياتها ومنابتها ومكوناتها، سواء جاءت بقرار خارجي أو شعبي، أن تواجه التداعيات والتحديات التي يفرضها كل سيناريو على مصير سورية وشعبها، وأن تبذل طاقتها وجهودها لتوسيع دائرة حضورها وتعزيز مكانتها في إطار أي خيار.
هكذا أود القول هنا بوجود، أو بوجوب إيجاد، خط ثالث أو طريق ثالث للمعارضة السورية، هذا إن أدركت في شكل صحيح مكانتها ودورها، وإن قررت حسم أمرها، من دون أي ارتهان سوى لطموحات شعب سورية. أي أن هذا يتطلب أن تسأل المعارضة نفسها الأسئلة الواجبة والحقيقية، وأن تجيب عنها بكل وضوح وصراحة. مثلاً، عليها أن تراجع نفسها إذا كانت نجحت في النهج الذي سارت عليه طوال السنوات الماضية، وإذا كانت بكياناتها وتشكيلاتها الحالية قادرة على الاستمرار وتحمّل تداعيات استمرار الصراع، وأن تفكر بكيفية ردم الفجوة التي بينها وبين شعبها.
هذا يعني أن المعارضة ستواجه في كلا الخيارين تحديات وتعقيدات ومداخلات جمة، فالخيار الأول يؤكد أن المعارضة ما زالت في البدايات، فهي لم تهزم النظام، ولم تحجّم دور القوى الدخيلة، وهي ما زالت في حاجة الى توضيح نفسها، أمام شعبها وأمام العالم، واستدراج جميع طلبات الدعم للوضع السوري. أما المطلوب من المعارضة وفق الخيار الثاني، فيتعلق بتعزيز مكانتها كممثل للسوريين، ولمجمل طموحاتهم، وفوق ذلك فهي مطالبة باستثمار المداخلات الخارجية، كقوة مضافة لها، من أجل الضغط على النظام وحلفائه لوقف القصف والقتل والتشريد، ومن أجل الوصول إلى هيئة الحكم الانتقالية، وفق بيان جنيف 1، وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، وهنا عليها أن تقدم نفسها، وعبر الحكومة الموقتة، كبديل للسلطة في المناطق المحررة، وهو الأمر الذي لم تنجح فيه حتى الآن.
لذا، إذا لم يتم التوجه نحو طريق ثالث، أي إذا تعذر على المعارضة مراجعة تجربتها، ونقد طريقها، واستنهاض أوضاعها، وتطوير كياناتها السياسية والعسكرية والمدنية، على أسس جديدة، وخطابات واضحة وجامعة، فإننا سنجد أنفسنا أمام طريقين فقط يطيلان عذابات السوريين، ويبددان تضحياتهم.
وفي مواجهة مع الذات، أخشى أننا بعد أحداث معركة حلب أخيراً، التي يبدو أنها كشفت ليس غطاء وجه الجولاني أمير «جبهة النصرة» فحسب، بل ووجه التوافقات الدولية بمجملها، أننا كسوريين وكمعارضة وكنظام بتنا أمام خيارين: إما استمرار موتنا تحت مسميات المعارك المدعومة دولياً أو الاعتراف بهزيمة كلا الطرفين عن تحقيق هدف معركتهما، والتوجه إلى طاولة مفاوضات قد تنقذ بقايا مما نعرفه من سورية. هذا مع تأكيدي أن معركة حلب أثبتت مخزون الصمود والتضحية العاليين عند شعبنا، ما يعني أن المعارضة مطالبة بترجمة ذلك بتطوير أوضاعها باتجاه الطريق الذي سبق أن ذكرته، بدل الاستسلام للخيارين السابقين.