موقع معارك الحسكة من مستقبل سورية
عبد الباسط سيدا
هل يمكننا اعتبار الأعمال القتالية الأخيرة التي شهدتها مدينة الحسكة بين قوات «حزب العمال الكردستاني»، بغض النظر عن التسميات المحلية، وقوات «الدفاع الوطني» ومعها قوات النظام، بداية تفارق قطعية بين الطرفين المتحالفين منذ بداية الثورة السورية، أم أنها تندرج في إطار ضبط العلاقة بينهما، وترسيم حدودها بما يراعي المتغيرات المحلية والإقليمة وتفاعلاتها الدولية؟
فمنذ انفتاح الأجهزة الأميركية على هذا الحزب أمنياً وعسكرياً، وخوض المعارك المشتركة في الحسكة وكوباني وتل أبيض ومنبج وغيرها، عبر التنسيق بين القوات المقاتلة على الأرض وطيران التحالف الدولي، والأسئلة تُطرح حول مستقبل علاقات هذا الحزب مع أطراف حلفه العتيد: إيران، النظام السوري، روسيا، وذلك بعدما ظهرت قرائن قوية تؤكد وجود حالة تنافس بين الجانبين الروسي والأميركي على استمالة هذا الحزب، واحتوائه، بغية استغلاله في العمليات القتالية في الداخل السوري، وكورقة للضغط على تركيا من مواقع متباينة.
وعلى رغم كل الحديث عن مشروع الحزب المعني الساعي إلى الربط بين كوباني وعفرين لوضع الأساس لإقليم كردي يمتد على طول الحدود السورية الشمالية مع تركيا، فالمعطيات الجغرافية والسكانية تؤكد ما يشبه استحالة هذا، وكذلك إمكانات هذا الحزب وتوجهاته، ناهيك عن حساسية الموضوع البالغة بالنسبة إلى الاستراتيجية التركية.
لكن يبدو أن الأطراف جميعها كانت، وما زالت، تضخّم هذا المشروع المزعوم خدمة لأهداف تخص مشاريع كل طرف.
فتركيا كانت تدرك منذ البداية، أن سورية بما تمثّله من موقع جيوسياسي، تشكل نقطة تقاطع بين اللاعبين الكبيرين الأميركي والروسي، وفي الخلفية الإسرائيلي. لكنها لم تكن قادرة على تجاهل ما يحدث في سورية، لأنها الأكثر تداخلاً وتفاعلاً مع الموضوع السوري الذي ستنعكس تبعاته على داخلها ودورها الإقليمي. فهي بصرف النظر عن علاقاتها الاستراتيجية بإيران، لا يمكنها تجاهل الأخطار الآنية والمستقبلية للهيمنة الإيرانية في العراق وسورية ولبنان، وهي هيمنة تخلط بين المذهبي والسياسي، الأمر الذي تتحسّب له تركيا أيضاً انطلاقاً من حساسية مجتمعها لأسباب مذهبية.
أما إيران، فيبدو أنها سعت الى تطبيع علاقاتها مع «الشيطان الأكبر»، بعدما طورتها مع «الشيطان الأصغر»، وذلك بتفاهمات مسكوت عنها مع إسرائيل، بهدف التمكّن من الاحتفاط بنتائج استثماراتها الكبيرة في سورية تحديداً، والمنطقة عموماً. لكنها كانت تدرك في الوقت ذاته، أن المعادلات الدولية الجديدة في الإقليم لن تسمح لها بالاستفراد، فكان لا بد من الاستقواء بأحد القطبين على الأقل، ومغازلة الآخر.
أما بالنسبة الى روسيا، فكانت أكثر اطلاعاً من غيرها على المشروع الأميركي الذي يقوم على أساس إعادة هيكلة الكيانات السياسية في المنطقة وفق المعطيات الراهنة، وبناء على استشفاف المستقبل. ويبدو أن الروس استنتجوا من خلال الاجتماعات الطويلة التي عقدوها مع المسؤولين الأميركيين، أن الترتيب المقبل سيسمح بتشاركهم معهم، حتى لو في حدوده الدنيا. لكن الأمور في عالم السياسة، بخاصة بين الكبار، لا تبنى على الالتزامات المبدئية، بل على المصالح والحسابات المتحوّلة باستمرار.
ولعل تنافس القطبين على حزب العمال الكردستاني في صيغته السورية يندرج ضمن هذا الإطار.
فهل حان وقت توزيع مناطق النفوذ السورية بين اللاعبين الدوليين والإقليميين، ولو في صورة أولية تمهيدية، هذا مع ملاحظة احتدام المعارك في منطقة حلب والشمال السوري في صورة عامة، وبروز بوادر بإمكان انتقالها إلى الشمال الشرقي؟
وماذا عن الجنوب والوسط؟ هل تقرر مصيرهما في هذه الصورة أو تلك، مثلما تبدو عليه الأمور في سورية المفيدة؟
هل تحوّل الكرد في المنطقة، بخاصة في كردستان العراق ومنطقة الجزيرة، إلى عنصر من عناصر التوازن في المعادلات الإقليمية بالنسبة إلى الاستراتيجية الأميركية؟
وما هو التفسير الذي يمكن أن يقدم حول التفاهم الروسي – التركي – الإيراني في شأن التمسّك بوحدة سورية، والإيحاء التركي، بالتناغم مع التوجهات الروسية والإيرانية، بإمكان القبول ببشار الأسد في المرحلة الانتقالية؟
هذا مع إدارك الجميع أن المطالبة بالحفاظ على وحدة سورية، مع بقاء الأسد، هي مطالبة تناطح المستحيل، وهي عبثية، لكنها ربما كانت قنبلة دخانية تمويهية، تتيح لأصحابها حرية الحركة في اتجاهات ومسارات أخرى، ربما بدأت ملامحها تتضح شيئاً فشيئاً، بخاصة في ظل شبه غياب لدور عربي فاعل.
ويبقى اللاعب الأميركي، وهو الأهم، والأكثر فاعلية والمقرر في نهاية المطاف. لكن يبدو أن الآخرين يحاولون في الوقت المتبقي تحصيل أكبر عدد من النقاط ضمن حدود المتاح، ليتم صرفها عنده دوراً يتطلعون إليه في مجريات المنطقة.
أما بالنسبة إلى العمال الكردستاني في صيغته السورية، فالواضح أن نهجه البراغماتي البحت، واستعداده للتنقّل السريع من جبهة إلى أخرى، والتناغم مع مختلف الألوان المذهبية والأيديولوجية، وإخفاقه في بناء جسور الثقة بينه وبين المجتمع الكردي، وعلاقته الإشكالية بالنظام، وانعكاساتها السلبية على علاقاته العربية والمعارضة السورية عموماً، لن تمكّنه من أداء دور ريادي مستقبلي، يعطيه مكانة اللاعب الإقليمي الفاعل، بل سيظل في موقع الأداة التي يمكن أن تُستخدم في هذه الصورة أو تلك، تبعاً للحاجات الناجمة عن متغيّرات الأوضاع.
اللوحة السورية باتت على غاية التعقيد، والمأساة السورية جسّدتها صورة عمران الذي آثر الصمت، وهو ما أضفى على جلاله الطفولي هيبة تُلزم أصحاب الضمائر التي لم تمت بعد بالتمعّن، واتخاذ الموقف المسؤول أخلاقياً على الأقل.