سورية: بين جنيف وآستانة ضاعت «الطاسة»
عبد الباسط سيدا – الحياة
ما يـــستــنتـج مــن المعطيات والاتصالات والمناورات، وجود رغبة روسية واضحة في تجاوز بيان جنيف 1، الإشكالي أصلاً.
اعتمد الروس في توجههم هذا منذ البداية أسلوب التأويل. فهيئة الحكم الانتقالي التي ينص عليها البيان لا تعني، وفق تأويلهم، إلغاء دور الأسد ومجموعته الأمنية- العسكرية. وقد حاولوا بكل الأساليب فرض هذا التأويل على المجلس الوطني، ثم الائتلاف، فالهيئة العليا للمفاوضات، ولم يفلحوا لسبب أساسي هو أنه لا يوجد في سورية معارض حقيقي واحد يمكنه بأي شكل القبول باستمرارية بشار، بعد كل ما حصل ويحصل.
فكان الانتقال إلى اسلوب آخر: انتاج «المنصّات»، وتفريخها، لتكون وسيلة لتفخيخ المعارضة من الداخل. وكانت آستانة في البداية تمهيداً لجنيف، ثم شريكاً لها، ولاحقاً بديلاً عنها.
كل ذلك لتجاوز عقدتي هيئة الحكم الانتقالي، وبشّار، عبر استغلال ضعف وتناحر الفصائل العسكرية المشاركة، خصوصاً بعد ما حصل في حلب، واختلاط «الحابل بالنابل» في صفوف السياسيين، وكل ذلك ما هو سوى انعكاس لواقع الحال الإقليمي، ومفاعيله الدولية.
عقدت الجولة الأخيرة من «المفاوضات» في جنيف، أو بتعبير أدق تم الإيحاء بذلك، لأن الأمر في مجمله لم يخرج عن نطاق «احتفالية» جنائزية، لا معنى لها سوى أنها قد تكون مادة في مذكرات المبعوث الدولي. وكان «التوافق»، غير المتوافق عليه، حول أربع سلال تذكّرنا بسلال أصحاب الخفة والبهلوانيات لتضليل الأبصار والعقول.
يبيّن التحليل الموضوعي للظروف التي سبقت ورافقت جولة جنيف الجديدة، أن ما تمخض عنها حصيلة منطقية للمقدمات التي تشكّلت نتيجة تشابك العوامل الدولية والإقليمية، مع واقع الضعف الذاتي للمعارضة بجناحيها السياسي والعسكري، والارتباك البنيوي الداخلي الذي تعانيه نتيجة خروج زمام المبادرة من أيدي السوريين، وتحوّل قضيتهم حلقةً من حلقات الصراعات والحسابات الدولية والإقليمية.
فالدور الأميركي في الإعداد لجنيف كان شبه معدوم، قياساً بالجولات السابقة، مع كل الملاحظات التي كانت تسجل عليه حينذاك. وهذا يؤدي للغياب الأوروبي لألف سبب وسبب. أما تركيا فأصبحت لها حساباتها وأولوياتها التي تلزمها هذه الصيغة أو تلك بالعمل مع الجانب الروسي، والتنسيق معه طالما أن الحليف التقليدي غائب، والعلاقة مع الحلفاء الأطلسيين والأوروبيين ليست على ما يرام راهناً.
وإذا أخذنا في الحسبان الغياب العربي عن جنيف، على رغم أن وفد الهيئة العليا للمفاوضات اجتمع في الرياض قبل التوجه إلى جنيف، لاحظنا أن كل ذلك كان مؤداه الهيمنة الروسية الكاملة، حتى أن دي ميستورا نفسه شكّك في المنتظَر منها ومآلاتها، حينما تساءل عن بواعث الغياب الأميركي، وعبّر عن عدم توقعه حدوث اختراق.
وهكذا أصبح وفد المعارضة في وضع لا يُحسد عليه، وبدأت التنازلات البروتوكولية، ومن ثم السياسية تتوالى، تنازلات لم تتمكّن الجمل الغامضة، والعبارات العامة المراوغة، والمهارات الفردية للعديد من الزملاء والأصدقاء من أعضاء الوفد، من التغطية عليها، أو تقليل آثارها السلبية فيى الأيام المقبلة، ما لم يتم تدارك الأمر قبل القادم الأعظم.
وما يستوقف ويثير التساؤل والهاجس هو التوافق على ترحيل قضايا وقف اطلاق النار والإرهاب، وغير ذلك من الأمور الميدانية الحيوية إلى آستانة. ونعلم أين تقع آستانة، ومن يتحكّم بالأمور والإيقاعات هناك.
والروس يدركون أكثر من غيرهم، أن المفاوضات الحقيقية لبلوغ الانتقال السياسي لن تكون عبر تعددية الوفود التي تمثّل المعارضة بمستوياتها كافة، وهم على اطلاع واسع على استحالة الجمع بين كل المستويات ضمن إطار وفد واحد، لا يتوافق أعضاؤه على المحدّدات الرئيسة التي يفترض أن تكون محوراً للمفاوضات.
وهذا معناه أن ما يجري ما هو سوى حفر سرداب تحت مؤتمر جنيف، تمهيداً لنسفه، وإلغاء أي حديث حول انتقال سياسي، أو هيئة حكم. وذلك استعداداً لتفاهمات قد تحدث مستقبلاً مع الإدارة الأميركية التي تنتظر هي الأخرى نتائج إعادة تقويم الموقف من الجهات العسكرية والمخابراتية، وتبيان ملامح وحدود المناطق الآمنة، وكيفية ضبطها، وتنظيم الأمور بين المتحكمين بها. ومن الواضح أن لقاء أنطاليا بين رؤساء أركان الولايات المتحدة وروسيا وتركيا يندرج ضمن هذا المنحى.
هناك اجتماع آستانة الذي حضّر له الروس. ويدور الحديث حول جولة جديدة من المفاوضات في جنيف. على أن تضم آستانة العسكريين بصورة أساسية، بينما يشارك السياسيون في جنيف.
والملاحظ أن التمهيد الروسي الديبلوماسي بدأ، وهو تمهيد شبيه بذاك القصف الجوي والمدفعي الذي نفّذوه في حلب وغيرها من المناطق التي كانت خاضعة للمعارضة الميدانية. التمهيد هذا يطالب بإشراك الآخرين من «منصات» آستانة وغيرها، في المحادثات القادمة، لتضيع «الطاسة» نهائياً، والمقصود تبديد صدقية الهيئة العليا للمفاوضات، استعداداً لتشكيل جديد يسنجم مع الأهداف المتوخاة روسياً.
ومما سيترتب على ذلك تصاعد التشدّد، بخاصة إذا أمعنا النظر في الموقف اللافت لتنظيم «أحرار الشام» الذي اعتمد منذ مشاركته في آستانة الأولى «النأي بالنفس»، وانتظار وضوح الرؤية.
جولة جنيف الأخيرة لم تخرج عن حدود المتوقع. وهناك من يقول: لم يكن في الإمكان أفضل مما كان، بالنظر إلى ظروف ما بعد حلب، وتشابك الصراع الإقليمي، وعدم معرفة موقع الملف السوري ضمن استراتيجية الإدارة الأميركية الجديدة.
وما يستنتج أننا نتجه نحو مرحلة تقاسم مناطق النفوذ، مع شعارات مكررة تشدد على ضرورة الحفاظ على وحدة سورية. لكن الجميع مدرك أن وحدة كهذه لن تكون، ولن تستقيم ابداً، مع حكم بشّار الأسد. وما صرح به بوغدانواف نفسه مؤخراً حول امكانية تقسيم سورية في حال عدم الوصول إلى التسوية أمر يستوقف. فالرجل على اطلاع كامل بالملف السوري، وبملفات المنطقة وتشعباتها. لكن ما طبيعة التسوية التي يتصورها ممكنة ومقبولة، ومع من ستكون؟ وكيف؟ كل هذه الأسئلة وغيرها محورية تهم السوريين جميعاً، لأنها تلامس مصيرهم ومصير أجيالهم المقبلة. فما موقع المعارضة السورية من كل ذلك؟