أقليّة يتيمة… على وشك الانقراض في سورية
هوشنك أوسي – الحياة
ليس انتقاصاً من أيّة ثورة انزلاقها نحو الحرب والتطاحن الأهلي. ذلك أن كل ثورة ربما تتحوّل إلى حرب أهليّة، ولكن يستحيل أن تتحوّل حرب أهليّة إلى ثورة. وهذا قول التاريخ، وليس قولي، وأمثلته على هذا أكثر من أن تحصى. ولأن الثورة في المفهوم العام هي تمرّد المظلوم على ظالمه، والعبد على سيّده وقامعه، فالثورات لا تنتصر ولا تنهزم. الثورات تؤسس، بعد تحريكها أو كسرها سكوناً أو ركوداً اجتماعيّاً، سياسيّاً، ثقافيّاً، فكريّاً مسموماً ومتواطئاً يحول دون عمليّة التغيير. عبر التاريخ، كم من ثورةٍ «انتصرت» على نظام لتأتي بنظامٍ أشدّ وطأةً وظلماً من النظام السابق، ولو موقّتاً. تمثيلاً وليس حصراً، الثورة الفرنسيّة أسست لتحوّلات جذريّة في كل أوروبا والعالم، وليس على مستوى فرنسا وحسب، ولم تنتصر بإسقاط نظام لويس السادس عشر، على رغم إتيانها بحقبة الإرهاب والحرب الأهليّة التي استمرّت من 1789 لغاية 1799. وبديهي أن لكل حربٍ وقوداً، منها ما هو قديم وغائر في الموروث، ومنها ما هو مستجدّ، مشتقّ من القديم، ومنها ما هو جديد، قضّاً وقضيضاً، مضافاً إلى القديم المتوارث.
مناسبة ما سلف، هي الحضيض الذي أماطت الثورة السوريّة اللثام عنه. هذا الحضيض كان سيبقى موجوداً وحاضراً، في شكل ظاهر أو خفي، في كل حيوات السوريين، إلى نصف قرنٍ آخر، لولا الثورة السوريّة.
وربما كان من أعراض الثورات انكشاف هذه التوريات الطائفيّة الخفية التي كانت تستبطنها السرديات السياسيّة والثقافيّة في خطاب السلطة والمعارضة في أي بلد، وسورية ليست استثناء. ولعل مفهوم «مثقف الوسخ التاريخي» الذي طرحه المفكر الفلسطيني – السوري أحمد برقاوي، صائب وحقيقي، ويأتي في هذا السياق، وينسحب على الضفّتين؛ مثقف النظام في شكل مطلق، ومثقف المعارضة في شكل نسبي. والمتابع لنكوص خطاب بعض المثقفين المحسوبين على المعارضة، و «الردّة» الطائفيّة لدى البعض، أثناء المعالجات والتقييمات السياسيّة والثقافيّة، هو أيضاً، تمثيلٌ لمفهوم «مثقف الوسخ التاريخي». هذا النكوص عن القيم الوطنيّة إلى التقييمات الطائفيّة، حتى ولو كان ردّة فعل على الإبادة الجماعيّة للنظام الأسدي مدعوماً من المجتمع الدولي في شكل غير مباشر، ومن روسيا وإيران مباشرة، لا يقلل من فداحة النتيجة، إذا اتفقنا على أن «مثقف الوسخ التاريخي» لدى المعارضة نتيجة من نتائج «نظام الوسخ التاريخي» للأسد وكل مثقفيه في العالم العربي.
وعطفاً على الحديث الطويل العريض حول قمع «الأقليّة العلويّة» الحاكمة لـ «الغالبيّة» السنيّة المحكومة لعقود، وعلى ما في هذا الحديث من انزلاقات وغلوّ وتهافت وتطرّف، بنسب متفاوتة، يبدو لي أن الأقليّة المقموعة في سورية هي السوريون الوطنيون الديموقراطيون. وهم قلّة قليلة، تتناقص تباعاً، وسط التوتّر والاستقطاب الطائفيّ. بينما الغالبيّة أو الغالبيّات فهي هذه الطائفيات المتأجّجة والمدجّجة بالثارات والأحقاد التاريخيّة والسياسيّة والمناطقيّة. هذه الغالبية المستنفرة لدى الأطراف القومية والدينية والطائفية كافّة، هي حاصل جمع التدهور والانهيار الوطني، مضروباً بما تفرزه الحروب من توحّش وحضيض في القول والفعل والفكر. هذه الغالبيّة هي التي تدير الحرب وتحطم الوطن في نفوس المواطنين، وتحلّ محلّه الوطن – الطائفة، أو الوطن – القوميّة، أو الوطن – الحزب، أو الوطن – القائد الخ…!
وسط تناسل الفاشيّات الطائفيّة والحزبويّة، والغالبيّة الحربيّة المتجددة، تكمن مأساة الأقليّة السوريّة التي هي حصيلة المثقفين والساسة، من كل الملل والنحل، الذين باتوا فقط يجاهدون للحفاظ على أنفسهم من الانزلاق نحو هذا الحضيض المتفاقم. هذه الأقليّة السوريّة، وهي محطّ تخوين كل الأطراف، يتيمة، وتحت وطأة الضربات، تعرض للضمور. ولا يكاد يمرّ يوم إلا ونرى فيه أحد أعضائها منزلقاً نحو مستنقع الغالبيّة المتقاتلة.
ومن تجليّات محنة الأقليّة السوريّة أن أفرادها منبوذون ضمن بيئاتهم كخونة ومارقين، يلهثون وراء رضا الأطراف الأخرى. هكذا يوصف الكرديّ السوريّ المعتدل، الذي يحاول الحفاظ على نفسه بين مطرقة فاشيّات بيئته وسندان فاشيّات بيئات الأطراف الأخرى، بأنه مهزوز وهشّ وخائن، يسعى لكسب رضا العرب والمعارضة العربيّة، ويبيع شرفه وقضية وحقوق شعبه. أو يُحارَب الكاتب أو المثقف العربي السوري الذي يحاول الحفاظ على توازنه ووطنيته، ولا ينزلق نحو شعبويّات وفاشيّات الخطاب العصبوي والعنصري، ويدافع عن حقوق الأكراد على أنها حقوقه أيضاً في الوطن، ويتم ترهيبه وتسويقه كخائن ومارق باع عروبة سورية وهويّتها وأصالتها العربيّتين لكسب رضا الكرد، وإظهار نفسه ديموقراطيّاً وحامياً لحمى حقوق الأقليات.
حاصل القول: يبدو أن الثورات، بما لها من عمق ومدلول فكري ونفسي، تستوجب القطع مع تركة الاستبداد والفاشيّات الطائفيّة والمناطقيّة والدينيّة والقوميّة… ومن أنجزوا هذا حالات فرديّة، قبل أن يكونوا ظواهر جماعيّة. فالمتبقّي من ثورة الحريّة والكرامة في سورية هو هذه الأقليّة اليتيمة التي يراد لها السحق والانقراض. والشراسة التي تمارَس على هذه الأقليّة هي حاصل شراكة خفيّة – ظاهرة، بين نظام الأسد ومعارضيه.