الأكراد يرسمون مصيرهم والعراقيون ضائعون
محمد علي فرحات – الحياة
العواطف القومية الكردية أثناء الاستفتاء وبعده أطلقت ما كان حبيساً من رغبة شعب في إعلان دولته وتثبيت مكان لها في خريطة العالم. ولكن، يفترض أن مسعود بارزاني ليس أسير هذه العواطف. إنه سياسي محنّك، استطاع تطوير الحكم الذاتي الذي أعطته بغداد للأكراد في عهد صدام حسين مصحوباً بضربات وصلت إلى جريمة حلبجة بالسلاح الكيماوي. وساعدت فرنسا ميتران ومعها المجتمع الدولي في تطوير هذا الحكم، معطية أماناً جويّاً لكردستان العراق أتاح لها أن تكون منطقة سلام في محيط عراقي تحطمه النزاعات والحروب.
ولن يكرر بارزاني تجربة جمهورية مهاباد الفاشلة ولا يريد لنفسه مصيراً يشبه مصير قادتها المأسوي على يد شاه إيران. لا بد أن القائد الكردي المحنّك يستند إلى اتفاق أو اتفاقات تحت الطاولة تحفظ في الحد الأدنى كياناً كردياً في كونفيديرالية عراقية، وفي الحد الأقصى دولة مستقلة تتلقى الاعترافات من عواصم بعيدة لتعترف بها لاحقاً العواصم القريبة بعد حوارات مضنية.
يرى المتابعون أن تركيا أردوغان هي الطرف الآخر في اتفاق غير معلن، ولا يدفعهم غضب الرئيس التركي واتهامه بارزاني بالخيانة إلى تغيير رأيهم، فعدا وقف رحلات الطيران إلى إربيل ومنها، بدءاً من غد الجمعة، لا عقوبات مؤكدة ضد كردستان العراق، إنما مناورات عسكرية وتهديد بحصار اقتصادي يسهل خرقه بالتواطؤ.
وبغداد المعنية الأولى بمشكلة تهدد كيان العراق السياسي، تدرك، بعيداً من رد الفعل العاطفي، أنها عاجزة وحدها عن مواجهة مساعي الانفصال، لكنها لا تشعر بالثقة بشريكيها المفترضين، التركي والإيراني. ثمة مصالح مختلفة، وربما كان استقلال الأكراد العراقيين فرصة أنقرة وطهران لتأكيد هيمنتهما على مناطق عراقية وسورية، تريان فيها أرجحية على مطالب الأكراد الأتراك والإيرانيين المستجدّة.
يعرض مسعود بارزاني دولته الموعودة في صورة مجتمع منفتح على الحداثة، ومشروع مركز اقتصادي وثقافي يستند إلى خبرات أكراد العراق في الشراكة الاقتصادية مع المحيط ومع أوروبيين وأميركيين وروس، وقد جرى تأهيل إربيل كمدينة اتصال مالي وسياسي وثقافي تضج بالباحثين عن فرص اقتصادية تمد خيوطها إلى حاجات جوار تؤرقه الصراعات العقائدية والعسكرية. ولن يسمح بارزاني لنفسه بخسارة كل شيء، العراق والعلاقة المفيدة مع تركيا التي وصلت إلى مستوى التحالف.
ثمة توازنات قد تفاجئنا كاشفة وعوداً كامنة تحت ستار التهديد العاطفي وغير المحدّد. هكذا حدث في انفصال جنوب السودان، وهو المثل الوحيد المناسب، فلا مجال للمقارنة مع إسرائيل، لأن الأكراد غير طارئين ولأنهم لا يستهدفون طرد أحد من أرضه، فالوطن وطنهم والأرض أرضهم، فضلاً عن وعدهم لأنفسهم وللأقليات العربية والآشورية والتركمانية والإيزيدية المقيمة معهم بدولة ديموقراطية تقوم على المواطنة.
مع ذلك تعلو الشعارات الحادة كالعادة في أي مفترق أساسي تواجهه منطقتنا: «تقبّل صداقة إسرائيل وافعل ما شئت»، من باب الإساءة الى القومية الكردية الصاعدة. أو «أعلن عداءك لإسرائيل وافعل ما شئت» من باب العبث بالمجتمع وسرقة المال العام وقطع الصلة بثقافات العالم وتعميم التخلف، تحت غطاء النضال ضد العدو الإسرائيلي.
أعلنت غالبية أكراد العراق رغبتها بدولة مستقلة. فكيف لهذه الدولة الديموقراطية كما وصفها أهلها أن تقوم في جوار يحكمه الإسلام السياسي الطائفي أو شبه الطائفي، المغلّف أحياناً بنزعات قومية، كما في «خمينية» إيران و «إخوانية» تركيا و «حزب الدعوة» حاكم العراق؟ ربما لهذا السبب سيجد الأكراد قوى إقليمية وأجنبية تعينهم في المسار الصعب، كما سيواجه المعترضون على النهضة الكردية عثرات ذاتية وتناقضات في ما بينهم تعيق خططهم لوأد الحلم الكردي أو منعه من التحقُّق.
لا بد من الحوار، وكل تأخير فهو يسيء إلى جيران الأكراد قبل أن يسيء إليهم، إلا إذا كان أردوغان يخطط للاستيلاء على الموصل وكركوك، فيما يخطط خامنئي للهيمنة أكثر فأكثر على كربلاء والنجف وربما البصرة.
الأكراد يهتمون بمصيرهم والعراقيون ضائعون بين الأيديولوجيا القديمة والفساد الحديث. ودائماً هناك دخان يمنع الرؤية في المحطات الرئيسية للافتراق وإعادة التكوين.