كيف تنهض الأمم وترقى الشعوب؟

4

إميل أمين – الشرق الاوسط

تستدعي التطورات الجارية طرح علامة استفهام حول الآليات التي تكفل للأمم والشعوب ارتقاءها وتقدمها، سيما في الأوقات الانتقالية التي تتطلب قرارات جريئة بأيادٍ غير مرتعشة.

 

في هذا السياق يأتي الحديث عن مكافحة الفساد كمقدمة أولى، فلا نمو ولا إصلاح اقتصادياً دون مواجهة جذرية للفساد بكافة أشكاله، وبخاصة أن السلوك الفاسد لا يزال يتسم بطابع كلي الوجود، إذ إنه يحدث في كافة الأنظمة السياسية، وتجري به المقادير على جميع مستويات التنمية، وفي كافة أنواع النظم الاقتصادية، من الاقتصادات الرأسمالية المفتوحة إلى الاقتصادات المخططة مركزياً.

 

يقطع الفساد طريق الدول نحو التقدم الاقتصادي الحقيقي غير المزيف، إذ يؤثر على البلدان النامية والمتقدمة على حد سواء، وتقوض الرشاوى المشروعية السياسية، كما تعصف بالإيرادات الحكومية وتشوه التجارة والاستثمار الدوليين والمحليين، مما يقلل النمو.

 

لا يعتبر الفساد بأي حال من الأحوال قضية جديدة؛ لكنه برز كقضية عالمية مع نهاية الحرب الباردة، حيث تسارع وقع واتساع المسيرة الديمقراطية والتكامل الاقتصادي الدولي وامتداد نطاقهما، غير أن الفساد هدد في بعض أنحاء العالم بإبطاء هذا الاتجاه؛ بل وبقلب وجهته رأساً على عقب.

 

وكلما كان الفساد متغلغلاً، فإن بإمكانه أن يعوق الاستثمار، ويعوق التنمية الاقتصادية، ويقوض الشرعية السياسية.

 

وحتى عندما يلوح أنه قد تم احتواء عواقبه لفترات زمنية طويلة، فمن الممكن أن ينقلب الفساد الواسع الانتشار نسبياً عن نطاق السيطرة في نهاية الأمر، وعندما يصبح الفساد مرتبطاً بالإصلاحات التحريرية فقد تفقد هذه الإصلاحات ما تحظى به من تأييد وتتفكك في نهاية المطاف.

 

وفي كل الأحوال، فإنه لن يمكن لإصلاح اقتصادي أو لارتياد آفاق اقتصادية غير مسبوقة، أن يحدثا في ظل مناخات الفساد التي تعمل على تشويه التجارة الدولية والتدفقات الاستثمارية. وفي ظل الأجواء الفاسدة وسيادة منظومة الفساد تسهل أنشطة الجريمة المنظمة الدولية، بما في ذلك الاتجار في المخدرات والأسلحة، ناهيك عن غسل الأموال، وجميعها تعوق أحلام الاقتصاد الوطني الساعية إلى فتح الحدود أمام حركة التجارة العالمية.

 

كارثة الفساد أنه يضرب الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، وإن اختلفت تبعاته، ففي البلدان الفقيرة قد يخفض الفساد من النمو الاقتصادي، ويعوق التنمية الاقتصادية، ويقوض الشرعية السياسية، وهي عواقب تفاقم بدورها من الفقر وعدم الاستقرار السياسي، وفي البلدان المتقدمة، قد تكون الآثار الاقتصادية للفساد أقل حدة، بيد أنه حتى في البلدان الغنية لن تستخدم مردودات الفساد في تحسين مستويات المعيشة.

 

يقود الفساد إلى تعميق الفوارق الطبقية والاجتماعية والمالية، وكذا يوسع من فجوة التفاوت بين الدخول، وذلك عن طريق زيادة نفوذ أولئك الذين لديهم استعداد ومقدرة على دفع الرشاوى، بما يلحق الضرر بمن لا يستطيعون الإقدام على ذلك، الأمر الذي يؤدي إلى إصابة النسيج الاجتماعي بالتفكك ولاحقاً بالتفتت، وصولاً إلى مرحلة الصدامات الأهلية بين الأغنياء والفقراء.

 

هنا يمكن للفساد بنوع خاص أن يكون عاملاً مقوضاً للشرعية السياسية في البلدان الديمقراطية الصناعية وفي البلدان النامية على حد سواء، عن طريق إقصاء المواطنين العاديين من دوائر قيادتها السياسية، وجعل قيام حكومة فعالة مسألة أكثر صعوبة.

 

الشاهد أن ظاهرة الفساد التي كانت من قبل تبدو كأنها تساهم في توفير مناخات استقرار لمجتمعات بعينها، انقلبت نتائجها إلى الضد مع مرور الزمن، والدليل على ذلك الاضطرابات الكبيرة التي حدثت مؤخراً في كوريا الجنوبية واليابان وإيطاليا، والسخط المتزايد الذي يحدث في المكسيك.

 

هل من خطوة حقيقية أولية تعد اللبنة الأساسية في طريق الإصلاح والثورة الاقتصادية العربية؟

 

المؤكد أن إعلان الحرب على الفساد هو تلك الخطوة، وتعتبر الشفافية والمساءلة أموراً أساسية لمكافحة الفساد، ويتطلب التعامل مع انعدام الشفافية والمساءلة الاقتصادية إجراءات حاسمة وحازمة، تكفل أن يكون صوت المواطن مسموعاً في مواجهة الفساد والفاسدين.

 

مكافحة الفساد عملية جراحية غاية في الأهمية، وتحتاج إلى مبضع جراح ماهر موضوعي وموثوق، وحكومات لا تبغي إلا مصلحة شعوبها، وليس عليها أن تستشعر أي حرج في التخلص من المسؤولين الفاسدين، مع تفعيل عوامل المراقبة والمتابعة لكل شخص في موقع المسؤولية.

 

ذات مرة في أوائل تسعينات القرن الماضي، سأل أحد قادة الاتحاد السوفياتي المنهار حديثاً مسؤولاً أميركياً رفيع المستوى سؤالاً جوهرياً وحساساً: كيف استطعتم هزيمتنا وهدم الإمبراطورية دون أن تطلقوا رصاصة، أو تتكبدوا قتيلاً واحداً في ساحة الحرب؟

 

كان الجواب مثيراً: «إننا صدرنا لكم أسوأ العناصر خبرة وأكثرها فساداً، لتأخذ بزمام القيادة والريادة في بلدكم».

 

المثال السابق يوضح كيف للفاسدين أن يقودوا الدول الكبرى والصغرى معاً إلى الهاوية، من جراء تعاظم الذات البشرية، والسعي إلى الربح الملوث وغير الأخلاقي.

 

مجابهة الفساد فرض عين تقره الشرائع الإلهية والنواميس الوضعية، في ظل القوانين والدساتير التي تضمن عدالة المواجهة والمجابهة، وتكفل لكل إنسان حقه وكرامته دون افتئات أو ظلم، فالحق أحق أن يتبع، أول الأمر وآخره.

Leave A Reply

Your email address will not be published.