كارثية أوضاعنا تلزمنا بالحكمة الواقعية
عبد الباسعبدالباسط سيدا
تؤكد طبيعة الأزمات والانسدادات التي تعيشها المنطقة وجود عوامل واقعية أدت إلى انطلاقة الربيع العربي الذي سرعان ما تحوّل، بفعل التدخلات والإرادات الإقليمية والدولية، وضعف العوامل الذاتية، إلى صراعات دامية بين قوى الاستبداد والإرهاب والشعوب الثائرة، الأمر الذي ترتب عليه إبعاد أو ابتعاد القوى المدنية الديموقراطية عن ميدان التأثير، واستفحال صراعات دمّرت البنية التحتية والعمرانية، وأتلفت النسيج المجتمعي الوطني، ودفعت بمختلف المكوّنات نحو البحث عن «ملاذات آمنة» تجسّدت في ولاءات فرعية، مذهبية، إثنية، أو جهوية. كذلك تبيّن عجز الدولة الوطنية عن استيعاب مكوّناتها، وتجسيد تطلعاتها، من دون أي تمييز أو قهر. فالدولة المعنية تحولت إلى أداة بيد الزمر المهيمنة، وتم توظيفها لبلوغ أهدافها التي لم تتقاطع يوماً مع المشروع الوطني الذي يُفترض أن يكون بالجميع ولمصلحة الجميع.
أزمة المنطقة لها جملة أسباب، منها داخلية ومنها إقليمية، فضلاً عن تلك الدولية. فعلى المستوى الداخلي لم تتمكّن حكومات المنطقة من بناء دول وطنية قادرة على استيعاب كل الطاقات المجتمعية من دون أي تمييز أو تهميش أو تغييب، بل سادت العقلية الاستئثارية المتوحشة في مختلف المراحل. وهيمن منطق ضرورة الاستقواء بالخارج لتطويع الداخل، والانقضاض عليه.
أما على المستوى الإقليمي، فهناك قوى كبرى مؤثرة في المنطقة لها مشاريع مختلفة، تعيش حالة تنافسية شديدة تأخذ شكل الصراع في أكثر من ساحة. ومن بين هذه القوى تبرز إيران بصورة لافتة، لا سيما بعدما تمكّن نظامها منذ الثمانينات من استغلال هشاشة مجتمعاتنا الوطنية، واستطاع البناء على إخفاقات حكومات تلك المجتمعات في ميدان التعامل مع الشيعية كحالة وطنية طبيعية، فتمدّد عبر أذرعه الثقافية والسياسية، ومن ثم العسكرية، في مجتمعات المنطقة، لينتقل بعد ذلك إلى مرحلة اللعب على المكشوف.
وهذا ما يفسر موقف النظام المعني المعادي بالمطلق لثورة الشعب السوري، فقد وجد فيها منذ الوهلة الأولى تهديداً مباشراً لمشروعه- الحلم، حلم الامبراطورية المغلّف بالمظلومية الطائفية التي لا تخصّه ولا تمسّه بشيء.
وإذا انتقلنا إلى المستوى الدولي، فسنجد أن لكل دولة حساباتها التي لا توجهها أية مبادئ أو أية منظومة قيمية، وإنما هي فقط المصالح العارية التي تحدّد مسارات سياساتها، وتساهم في رسم ملامح تحالفاتها التي تتغيّر تبعاً لتغيّر المعطيات والأولويات.
وما يعنينا هنا في المقام الأول، يتمثّل في واقع مجتمعاتنا التي كانت ضحية الصراعات والحروب الإقليمية والدولية، التي اتخذت من أوطاننا ساحة لهندسة معادلات جديدة تتناغم مع مشروع إعادة هيكلة كبرى لحدود المنطقة ومقدراتها.
فسورية تعاني منذ نحو سبع سنوات من كوارث حرب ضروس أعلنها النظام مع حلفائه على الشعب. حرب تسببت في تهجير وتشريد نصف سكانها، وأدت إلى تدمير نصف البلد إن لم نقل أكثر. وما تبقى انكفأ عقوداً نحو الوراء في انتظار معجزة لا تبدو في مجال الممكن راهناً. والعراق يعاني من غياب الدولة الوطنية الفاعلة نتيجة التحكّم الإيراني بكل مفاصلها الحيوية. إلا أن استفتاء إقليم كردستان، المشروع من جهة المبدأ، جاء ليعطي كل الفاشلين ذريعة للمزايدات والاتهامات، والتلويح بإجراءات عقابية انتقامية كيدية، كانوا يعدون لها منذ زمن بتوجيه من الراعي الإيراني.
أما في لبنان، فتمكّن حزب الله من ابتلاع الدولة، حتى بات هو الآمر الناهي في تعيين الرؤساء والوزراء، وتوزيع صكوك الوطنية، وإرسال القوات العسكرية إلى خارج الحدود، وعقد الاتفاقات المشبوهة.
ومن نافل القول أن نشير هنا إلى أن كل ما جرى ويجري في الدول الثلاث لا يخدم شعوبها، بل يهدّد بتفجير كياناتها من الداخل، لتتحول، وحتى إشعار آخر، إلى مناطق نفوذ، تتخذها القوى الإقليمية والدولية قواعد لحماية مصالحها، وتسهيل تحركاتها، وتقوية أوراقها.
ومن الواضح أن الأمور في المدى المنظور لن تكون وفق رغبات هذا الفريق أو ذاك على المستوى الداخلي، وذلك لتشابك العوامل والمؤثرات، وتعقّدها على مختلف المستويات. بل إنها تستوجب جملة مشتركة من التوافقات، يقر بها الجميع، لتكون مدخلاً للتعامل مع النقاط الخلافية، وتمهيداً لمساعِ جادة تتمحور حول الزوايا الحادة لتدويرها، وتبحث في حلول إبداعية للعقد المستعصية.
وربما تأتي ضمن هذا السياق جملة خطوات حصلت في الأيام القليلة المنصرمة، منها على سبيل المثال: موافقة حكومة إقليم كردستان العراق على حكم المحكمة الفيديرالية الخاص برفض الانفصال بناء على تفسير الدستور العراقي. ردود الأفعال على استقالة الحريري، والتفاعل معها لبنانياً وعربياً ودولياً. هذا إلى جانب المؤتمر الذي أعلنت عنه المملكة العربية السعودية بهدف جمع مختلف قوى المعارضة السورية بتوجهاتها المختلفة، على أمل الخروج بموقف مشترك يكون أساساً لتشكيل وفد تفاوضي موحد.
هذه الخطوات، وغيرها من تلك التي ينبغي اتخاذها، ربما كانت مساعدة للحد من تصاعد وتيرة التشنج والتخندق في مجتمعاتنا، ومنعها من الوصول إلى حافة الانفجار الشمولي.
ولكنها خطوات متواضعة، ستظل ناقصة، عاجزة عن أحداث تغييرات إيجابية واعدة، ما لم تتوافر إرادة دولية حقيقية، تدعمها، وتعمل على توحيد الأرضية اللازمة لترسيخ التفاهمات عوضاً عن استخدامها أدوات في موجة جديدة من التنافس، والصراع، والحروب الساخنة بالوكالة، مما لم تعد منطقتنا قادرة على تحمّل أعبائه الكارثية.