المفاوضات أدوات للصراع على مستقبل سورية
سميرة المسالمة
جدّد المجتمع الدولي دعمه مفاوضات جنيف، وتأكيد شرعيتها «الوحيدة» لحل للصراع السوري، بعد محاولات روسيا انتزاع هذه الشرعية وتبديدها، مرة في مجموع الهدنات المحلية، وثانية عبر مسار آستانة، وثالثة عبر مؤتمر «للحوار الوطني». وفي الإطار ذاته تتكرّر التصريحات الدولية، مع تنامي الحديث عن مفاوضات سوتشي، أن المفاوضات، التي تجرى برعاية أممية، هي طريق الحل السياسي، ما يتيح للمعارضة أن تعيد بناء استراتيجيتها التفاوضية على أسس جديدة، تنطلق منها مما حدث في مؤتمر الرياض-2 من دون أن تستسلم إلى أن تجميع الوفود الثلاثة (الهيئة العليا للمفاوضات ومنصتي القاهرة وموسكو)، في وفد واحد لا يزال في طور العمل الورقي، ولم يختبر في ميادين التفاوض الحقيقية على مستوى القضايا المصيرية.
وإذا كان من المفيد ضمن معطيات ووقائع المتغيرات الدولية التعامل مع مسار التفاوض على أنه أحد الأدوات التي قد تكسب طرفاً معيناً أمام طرف آخر بعض التعديلات في الدستور السوري، وشكل النظام السياسي، وماهية التغييرات على صعيد الابتعاد عن مركزية الحكم الرئاسي، وإلى أي درجة يمكن استثمار ذلك في صياغة عقد اجتماعي جديد بين السوريين، إلا أنه في الوقت ذاته يجب أن نتعامل مع مسارات وتطورات العملية التفاوضية، سواء كانت تحت مظلة جنيف أو آستانة أو حتى في سوتشي المقبلة، على أنها أيضاً أدوات للصراع على سورية، بقدر كونها أدوات لإدارة الصراع.
على ذلك فإن ما ينتظرنا خلال جولات التفاوض المقبلة، في مسارات جنيف وآستانة وسوتشي، ليس صياغة الطريق إلى الحل السوري، وإنما تمهيد الطريق لحل الصراع على سورية بين الدول المنخرطة فيه والراعية له. ولهذا فإن الإسراع إلى عقد لقاءات ثنائية وثلاثية وأممية تزداد وتيرته مع انتهاء الحرب المعلنة على «داعش»، وانتصار الحلفاء وتقسيم غنائم «الخلافة» المهزومة بينهم، ومع انقسام الفريقين بين روسيا الدولة المهيمنة على سماء سورية، والولايات المتحدة صاحبة القرار النهائي في التوقيع على خريطة التفاهمات والغنائم الختامية، الأمر الذي يتوقع أن تنتج منه تحالفات سوتشي (روسيا وإيران وتركيا)، كما نتج في المقابل الوفد التفاوضي الموحد برعاية السعودية وروسيا وأميركا ودول غربية.
وضمن المسارات التي تتزاحم تحت شعار دعم مفاوضات جنيف، برز الموقف الأميركي، «الصامت» لزمن طويل، في جانبين، أولهما، إعلان هادئ مفاده بأن مسار مفاوضات جنيف هو المسار الوحيد للحل السوري، على ما جاء في تصريح لوزير الدفاع الأميركي أخيراً. وثانيهما، تصريح أميركي بإرسال إرسال ألفي جندي أميركي إلى الشمال السوري. والغرض من هذين الإعلانين اللافتين هو تذكير الأطراف المعنية (لا سيما روسيا وإيران)، بأن القوة الأميركية هي التي ترسم الحدود الفاصلة بين القوى النافذة في الصراع على سورية، وأنها هي التي تلزم الأطراف المعنية تغيير مواقع وجبهات حربها بعيداً من عفرين في الشمال الغربي تارة، وعن حقول الغاز والنفط شرقاً وشمالاً، كما هي الحال في جنوب سورية أيضاً، حيث المنطقة «المنخفضة التصعيد» بين روسيا والولايات المتحدة (وإسرائيل ضمنها)، وتلك هي الملاحظة الأولى التي يجدر الانتباه إليها جيداً.
الملاحظة الثانية تفيد بأن ثمة قطبة مخفية لا تزال تعرقل الوصول النهائي إلى تصور حل شامل، حتى في ما يتعلق بجزئية شكل الحكم في سورية، ونوع اللامركزية التي ينادي بها وفد المعارضة إلى المفاوضات، بأنها لا مركزية إدارية، في حين يعلو الصوت الكردي مطالباً بما هو أبعد من ذلك، أي بحكم ذاتي، وهو الأمر الذي لم تسانده التصريحات الأميركية حتى اللحظة ولم تجزم في الآن نفسه نفيه بالمطلق. لذا تقودنا هذه المسألة إلى التساؤل عن الحكمة في البقاء شبه مغمضي العيون، وصامتين، عما يحدث في مساحة تصل نسبتها إلى نحو ربع مساحة سورية، حيث تسيطر «قسد» بحماية ورعاية أميركية، وعدم الحديث عن مصيرها ضمن إطار مناقشة واقعية، وغير مرتهنة لأي جهة، وضمن الحل السوري الشامل، الذي يقبل التفاوض مع نظام الأسد، بل وشراكته في الحكم الانتقالي، في حين يستبعد أن يجري تفاوضاً أو تفاهماً مع قوى موجودة على مساحة تختزن ثروات سورية الباطنية والزراعية، وهي مدعومة من القوة الأميركية التي تختبئ خلفها أيضاً بعض فصائل المعارضة السياسية والمسلحة.
يستنتج من ذلك أن التعاطي مع العملية التفاوضية هو فقط بين المعارضة (وفد التفاوض) والنظام السوري، من دون الالتفات إلى مصير ما تبقى من مساحة سورية، وهو ما يؤجج المخاوف من النزعات الانفصالية، ولا يبدّد الصمت من جهة المعارضة أو النظام هذه المخاوف، بل على العكس يحولها إلى مركز اهتمام شعبي يمكن أن ينتج منه ما هو في خطورة الانفصال الجغرافي، وهو تمزيق الخريطة السورية على أساس قومي.
القصد أن الخوض في مناقشة هذا الملف ضمن العملية التفاوضية، هو أكثر تحصيناً لوحدة سورية شعباً وأرضاً، التي يتم تداولها في البيانات التفاوضية، من دون إيلاء الاهتمام اللازم إلى أن الوقائع على الأرض قد تبدد هذه البديهيات الشعاراتية، إذا لم تعمل المعارضة على تطويقها بالحوار والتفاوض والتفاهم مع القوى الكردية المعنية، على مشتركات تنتج النظام السياسي الآمن للسوريين ولسورية.
ملاحظة أخيرة، هي أن الاصطفافات الدولية التي تنتجها السياسة غير المستقرة في المنطقة، وتدفع باتجاه تغيير تموضع أطراف الصراع الدولية والإقليمية، من أعداء إلى أصدقاء وحلفاء وبالعكس، كما حدث للعلاقات التركية- الإيرانية في الآونة الأخيرة، في محاولة للاختباء بالعباءة الروسية من التقلبات الأميركية، تشير إلى أن الحل المنشود في المنطقة لا يزال على صفيح بارد، حيث لا يمكن لروسيا أن تنتج حلاً واقعياً من دون المباركة الأميركية، كما لا يمكن للأخيرة أن تسمح لإيران بتبييض أعمالها العدوانية في سورية والمنطقة عبر تحالفها مع روسيا، وتوافقاتها مع تركيا، في ما يخص الملف الكردي في المنطقة عموماً، وسورية بخاصة.
كل ما تقدم يفيد بأن مسار المفاوضات، في كل المسارات، وعلى رغم التصريحات الروسية التي تتحدث عن انتخابات برلمانية ورئاسية، لا يزال طويلاً ومعقداً، وهو سيعبر إلى الأمور التقنية في أنفاق مظلمة، لأن روسيا لا تزال تتحدث عن المفاوضات على أنها مجرد مصالحات بين مختلفين على السلطة، ومن أجلها، وليس على انتقال سياسي ينهي حقبة ديكتاتورية، ويؤسس لنظام جديد بلبوس جديد، لا يمكن للنظام القديم ارتداؤه، أو التلاعب بقياساته لمصلحة تحجيمه، وانتزاع روحه، من خلال إعادة طرح النظام نفسه من باب الانتخابات المراقبة أممياً، بعد تعديلات أو إصلاحات دستورية، لن تطاول جوهر القضية السورية، وهو إبعاد شبح إنتاج النظام مجدداً من باب المفاوضات والمؤتمرات الدولية.