اللعب الإيراني بأصل الأشياء في المنطقة
حازم الامين
ثمة مزاج انقضاضي متغطرس تعكسه خطوات أقدمت عليها أذرع الحرس الثوري الإيراني في الإقليم، وهي خطوات لم تقم وزناً لتبعات أفعالها والصدوع العميقة التي تخلفها. قتل علي عبدالله صالح وتعمد التمثيل بجثته وتصويرها وبثها في غضون ساعات قليلة على الفعلة كانت آخر هذه الخطوات. وسبق هذا الحدث وقائع دموية كانت فيها قوات الحرس الثوري تزيح من طريقها من الحدود العراقية – الإيرانية في بعقوبة ووصولاً إلى الحدود اللبنانية – السورية في البقاع، ملايين السكان السنة وعشرات المدن والبلدات. جرى ذلك في سياق قرار بإحداث تغيير ديموغرافي، أيضاً لم يُقم وزناً للكارثة التي أحدثها.
قسوة الحكومة العراقية وفجاجتها حيال الأكراد عقب استفتائهم، والخطوات الانتقامية التي أعقبته لا تخلو بدورها من شعور بالتخفف من الالتزامات المحلية، فهي قذفت الأكراد في غضون أيام إلى مصافي «قتلة الأئمة»، وجعلت تقضم إقليمهم على نحو احتلالي غير آخذة في الاعتبار سنوات التحالف الشيعي الكردي في أعقاب سقوط نظام صدّام وقبله!
في سورية، لم يخف قاسم سليماني وجهه، وأعلن للسوريين وللعالم أن الحرب هناك يقودها جنرال للحرس الثوري ويخوضها جنوده غير السوريين، وأن لا حساب للحدود، فقد فتحت البوكمال على الصحراء العراقية، والجنرال لم يأبه لحسابات الدول والحكومات. الحرب مفتوحة على الطموحات الإيرانية إلى أقصى حدودها، ولن يقف أحد في وجهها.
لبنان لا يخرج عن هذا السياق، مع أن حكومته قررت أن «تنأى بنفسها» عنه. جاءتها الصفعة الأولى من نائب الأمين العام لـ «حزب الله» الذي كشف عن ضيق الحزب بهذه الترهات. وهو على كل حال محق في ضيقه، لأن قرار الحكومة اللبنانية، وإن كان شكلياً، ولا قيمة عملية له، يبقى صوتًا مزعجًا في سياق المهمة الكبرى التي يتولاها الحزب في الهلال الإيراني.
في خريطة الحروب الأهلية هذه، أمر مستجد. عدم الاكتراث بطبيعة العلاقات المحلية ومستقبلها في سياق الانقضاض المتواصل على كل ما تطال أيدي الحرس الثوري. أن يُقتل صالح كما قتل، فهذا لن يمنع عبدالملك الحوثي من الظهور على التلفزيون وإعلان غبطته! لم يحصل ذلك مصادفة، فمن قرر أن يقتل صالح قرر في الوقت ذاته أن يظهر الحوثي، متبنياً التمثيل بجثته. المهمة تقضي بأن يتم القطع مع كل ما سبق الجريمة من اعتبارات. من هنا، نبدأ مستقبلنا في العلاقة مع اليمنيين، من مشهد صالح مسحولاً. التاريخ يؤسس على الفيديو الذي بثه الحوثيون لجثة حليفهم الذي خرج من العباءة.
بين العراق وسورية، عشرات الوقائع الموازية. الموصل يجب تدميرها، بما أنها تقف في طريق سليماني إلى سورية. تم تدمير القسم الأيمن منها بنسبة 90 في المئة. لم يُذهل الدمار أحداً، فـ «داعش» هُزم، وها هو العالم فرح بالهدية الإيرانية. أحياء هائلة في حلب تمّ مسحها، وها هو العالم مستكين وقابل بمصير المدينة.
الابتعاد مسافة قصيرة من المنطقة ومقارنتها بنفسها قبل عشر سنوات فقط، يكشف حجم التغيير. عدد المدن المدمرة وعدد المقتلعين من مناطقهم وعدد القتلى، وكل هذا الفراغ جرى ملؤه بالنفوذ الإيراني المباشر. ومن يملك الجرأة على إحداث هذا التغيير واللعب بأصل الأشياء، هو بالتأكيد قوة لا تشعر بأي التزامٍ ترتبه البنى السياسية والاجتماعية السابقة. فالقدرة على الفتك بكل ما هو قائم ليست عسكرية فقط، إنما امتداد لشعور بأن ما هو قائم من علاقات يجب تدميره بالكامل. من يستطيع فعل ذلك من دون أن يرف له جفن هو قوة تشعر أنها خارج أي التزام وخارج تاريخ هذه المنطقة. حتى العلاقة المذهبية بين الجماعات الشيعية العراقية والنظام الإيراني لا تنطوي على أي التزام إيراني يتعدى العلاقة بالطقس والمذهب. العشيرة كوحدة اجتماعية محلية يحتقرها الحلفاء الإيرانيون ولا يكترثون لحساباتها، ويستعرض العراقيون سلسلة هائلة من التباينات التي لم تقم آلة النفوذ الإيراني في العراق لها وزناً في سياق تفشيها.
قتل صالح وعرض جثته جزء من الشعور بضرورة تدمير الالتزامات التي أملتها الحقب التي سبقت تدفق النفوذ الإيراني على اليمن. القطع العنيف مع كل ما تمليه العلاقات بين الجماعات اليمنية، خصوصًا أننا نتحدث عن أقلية مقابل أكثرية، وعن وهم حاجة الأقلية «المنتصرة» إلى قبول الأكثرية المهزومة، وإلى تدبير علاقة معها. ولكن، في ظل النفوذ الإيراني لا يرغب المنتصر في تسوية تتوج انتصاره، بل بمشهد دماء يقطع مع كل ما سبق.
لم يشعر نظام إيران حتى الآن بهول ما أحدثه من شروخ وما أسسه من حروب. يواصل «انتصاراته» من دون أن يلتفت إلى الوراء. مخيمات اللاجئين في محيط المدن إذا ما انفجرت وأنجبت «داعش» جديداً، فستنفجر على رؤوس أهلها، والحدود الإيرانية بعيدة ولن تصل إليها نيران حروب المستقبل القريب. سيموت من الحلفاء الشيعة النفر الكثير، وهذا أيضاً ليس حساباً طالما أنه لا يُهدد نظام طهران، وأثر الجريمة على علاقات الزيديين بغيرهم من اليمنيين لن يكون وبالاً على طهران طالما أن الحرب بعيدة، وأن الدماء ستبقى هناك.
لم يقف أحد حتى الآن في وجه الزلزال الإيراني، وهو ما يدفع المرء إلى التأمل بحجم التغيير وبإمكان أن يكرس بصفته الواقع الذي ستكون عليه المنطقة في المستقبل القريب. ثمة وقائع كرسها منتصرون وصارت حقائق. إسرائيل نموذج أخير، لكن قبل نشوئها شهد العالم تجارب صارت وقائع.
قبل اجتياز سليماني الطريق من الحدود الإيرانية – العراقية إلى الحدود السورية، كنا نقول أن المهمة مستحيلة ويقف في وجهها ملايين من الناس وعشرات من المدن. وها هو فعلها غير مكترثٍ بالنتائج. وكنا نقول أيضاً قبل مقتل صالح، أن الأخير حاجة للحوثيين ليقولوا أن لديهم شريكاً سنياً. وها هم يقتلونه من دون حساب للشراكة.
لم يعد ممكناً مشاركة أحد. صالح دُفع نحو الانشقاق، والحلفاء الأكراد في العراق لا مكان لهم في المشروع، وقريباً سيمتد تساقط الحلفاء إلى النظام في سورية والحلفاء اللبنانيين من غير الشيعة. وهذا التدفق لا يبدو أن قوة محلية يمكنها أن تقف في وجهه.