في أساس حقوق الإنسان وقراءتها عربياً
كرم الحلو
مفهوم حقوق الإنسان من المفاهيم الإشكالية في الفكر العربي المعاصر، بل إنه أكثر هذه المفاهيم إشكالاً والتباساً على رغم شيوع تداوله منذ الثمانينات من القرن الماضي. يكمن الإشكال في مفهوم الإنسان بالذات، وفي مفهوم الحق، كما في العقد الذي يؤطر العلاقة بين الإنسان وبين الكون أو بينه وبين أيّ سلطة مفارقة، اجتماعية أو سياسية أو ميتافيزيقية أو أسطورية.
الأمر الذي يطرح بادئ ذي بدء، تحديد معنى الإنسان وماهيته وموقعه في الكون وفي المجتمع وفي التاريخ. هل نتعامل مع الإنسان باعتباره محكوماً «بمرجعيات مفارقة ثقافية أو سياسية أو دينية أم نرى إليه بوصفه ذاتاً» واعية سيدة، وكمصدر للمعرفة وللقيم وللحق؟ هل يتمتع الإنسان بحقوق طبيعية قبل وجود أي شكل من الأشكال التنظيمية للمجتمعات وعلى رأس تلك الحقوق الحق في الحرية؟
إزاء هذه الأسئلة يجب الاعتراف بأنّ مفهوم حقوق الإنسان مرتبط في نشأته وتطوره بالثورة الحداثية حيث أعيد تشكيل الفضاء الاجتماعي على أساس العقد الاجتماعي المبرم بين أفراد الهيئة الاجتماعية أنفسهم، وليس بينهم وبين أي قوّة خارجة عنهم متعالية عليهم. وقد حدث هذا التحوّل في سياق تطوّر تاريخي، حيث تمّ تجاوز المرجعيّة اللاهوتيّة لمصلحة المرجعية البشرية، وقام مجتمع المواطنة، وتكرّست حقوق الإنسان في الحرية والتقدّم والمساءلة، وانهار الحكم المطلق لمصلحة المجتمع المدني، ما مهّد لتبلور مفهوم الحريّة في صيغته الليبراليّة الحديثة التي تكوّنت وتطوّرت على مراحل متعدّدة منذ القرن السابع عشر. فالفرد في المرجعيّة الحداثية هو «الفرد» في مقابل «المجتمع»، «المواطن» في مقابل «الدولة». على عكس ما هو في المرجعية التراثية حيث نظر إلى الفرد من خلال ثنائيات لا تحدّد من دونها، مثل ثنائيات الراعي والرعية، الخاصّة والعامّة، العقيدة والقبيلة.
ثمّة تلازم إذاً في الثقافة الليبراليّة بين المجتمع المدني والفرد وحقوقه الطبيعيّة في الحريّة والمساواة والقرار المستقل عن أي مرجعيّة خارج العقد المدني الذي يؤطر الأفراد في علاقات اجتماعية تتحدّد بالمجتمع المدني. إلّا أنّ مفهوم المجتمع المدني بصورته الحداثية هذه يشوبه التباس واختلاط يتكرّران في خطابنا السياسي، فقد رأى أحمد شكري الصبيحي أنّ مفهوم المجتمع المدني ليس غريباً عن ثقافتنا العربية الإسلاميّة، وذهب محمد عابر الجابري إلى أنّ مضمون العقد المعروف بـ «الصحيفة» يحتمل أن يوصف بأنّه «عقد اجتماعي» ولم يتردّد حسنين توفيق إبراهيم في القول أنّ مفهوم المجتمع المدني له دلالاته في الإسلام، ومن هذا القبيل عد بعض الباحثين المؤسسات التقليدية، الطائفية أو العشائرية، من مؤسسات المجتمع المدني العربي.
لكن محمد أركون يعتبر من الخطأ الجسيم تعاملنا مع نصوص الحضارات ما قبل الحداثية بالرؤى نفسها التي نتعامل بها مع فكر الحداثة ومصطلحاتها، لأنّ ثمّة فرقاً شاسعاً بين ما تحيل إليه هذه المصطلحات وبين مضامينها التراثية. فعبارة «حقوق الإنسان» كانت غائبة في النصوص العربيّة التي تعود إلى ما قبل القرن العشرين، والتي حملت دلالات مختلفة بالكامل عن دلالاتها التراثية. وساهمت الدولة التسلطية العربية في تأخير الوعي بحقوق الإنسان في المجتمع العربي، فكرّست العقل الرعوي الاستبدادي على حساب التوجه المدني وتقدّمه، ومهّدت الطريق إلى تأكيد العصبويات ما قبل المدنيّة.
إنّ دولة المجتمع العربي وانتشار الدولة في كلّ ثناياه كانت نتيجة اكتساح كلّ مجالات الحياة المجتمعيّة، وقمع عمليّة تكوين مؤسسات المجتمع المدني، وإعاقة التقدّم باتجاه التحديث السياسي والاجتماعي والفكري. الأمر الذي أدّى إلى مراوحة فكرنا الاجتماعي حول القضايا والإشكاليات التي طرحها الفكر النهوضي من حرية الاعتقاد إلى حقوق المرأة في التعليم والعمل مروراً بالحقوق الدستورية والاقتصادية التي تؤمن مراقبة الحكام وتقليص الفوارق الطبقيّة ولو في الحدّ الأدنى. وهذه كلّها لا ترقى إلى مرتبة معاني «حقوق الإنسان في الفضاء الحداثي» ودلالاتها.