لغير هذه الأسباب اغتيل الحريري
منذ تعيينه رئيسا للوزراء في 1992، شغَلَ رفيق الحريري الناس والإعلام في لبنان وخارجه. استلم الرجل منصبه وفي حوزته تصور واضح تقريباً لما يريد أن يعمل، مستنداً الى التوافق الدولي والعربي الذي كان لبنان يعيش في ظله منذ اتفاق الطائف.
يتلخص المناخ العام حينها بتعاون سعودي– سوري برعاية أميركية على إقفال ساحة الصراع الإقليمي في لبنان وتسوية الجانب اللبناني بنصر شبه كامل لأنصار سورية مع أرجحية إسلامية في السلطة (قبل ظهور الانقسام السنّي– الشيعي). تُُرك يومها الشريط المحتل إسرائيلياً في الجنوب كنقطة نزاع قابلة للاستخدام كعامل ضغط على الأطراف المشاركة في المفاوضات العربية– الإسرائيلية التي كانت تُعلق عليها آمال كبيرة في تغيير وجه المنطقة وإحلال سلام عادل وشامل فيها.
سمح المناخ والتوافق هذان للحريري بالانصراف الى الشأن الداخلي، وخصوصاً الجانب الاقتصادي الذي كان قبله يغرق في دوامة من الافتقار الى الدور وانهيار العملة المحلية والتضخم و «الاقتصاد الأسود». راهن على إعادة لبنان الى الخريطة الاقتصادية الدولية من خلال مشاريع عقارية ضخمة واستثمارات أجنبية وقروض لإحياء البنية التحتية التي كانت تبخرت تماماً في نهاية الحرب الأهلية المديدة.
ليس كل ما قيل وكتب عن أسلوب الحريري في إدارة الاقتصاد افتراءً عليه. كان الرجل واضحاً في انحيازه إلى أصحاب رؤوس الأموال الكبرى ونظرية إيكال المهمات الصعبة إلى ما يسمى بالإنكليزية «غولدن بويز» أو الشبان من حاملي الشهادات الجامعية العليا، وتحديداً من الغرب، من دون أن يكون لهم في غالب الأحيان تماسّ حقيقي مع الواقع الاجتماعي والسياسي لبلدانهم.
«الورشة» العقارية في وسط بيروت المدمر ومئات الأنفاق والجسور الجديدة وشبكات الهاتف الأرضي والخليوي كانت تعتمد في تمويلها على ما سمي «المناقصات بالتراضي» أو على الاقتراض من الخارج بفوائد مرتفعة وعلى بعض المساعدات والهبات الخليجية. سمح ذلك لعدد كبير من المنتقدين بتوجيه سهامهم الى طبيعة الاقتصاد الجديد الذي يبنيه الحريري، المُهمِل للجوانب الاجتماعية ولمعاناة الفئات التي دفعت ضريبتي الحرب والسلم. حتى الحفلات الفنية والمعارض التي جرت في تلك الأيام تعرضت لانتقاد شديد، باعتبارها تروج لسلعة يراد بيعها ولا تزيد عن صورة نمطية مجددة ومنمّقة لذات المضمون اللبناني السابق على الحرب والقائم على التكاذب الطائفي وإخفاء عمق التناقضات الداخلية التي ظلت من دون حل بسبب الطريقة التي جرى بها تطبيق اتفاق الطائف في ظل الهيمنة السورية على مفاصل السلطة في لبنان، بما فيها مجريات الحياة التجارية والإدارية وصغائرها، بل تفاهاتها.
بعض المنتقدين الذين ذاع صيتهم في ذلك الحين لم يكن، كما بات اللبنانيون يعرفون، غير أدوات يجري تحريكها من قبل أجهزة الاستخبارات السورية ضمن لعبة «خذ وطالب» وصراع الأجنحة داخل النظام السوري الذي لم يتخلّ في يوم، لا هو ولا شركاؤه وأتباعه اللبنانيون، عن الإفادة من كل نجاح تسفر عنه سياسات الحريري وتحميله وحده مسؤوليات أي فشل قد تصادفه، فكانوا الشركاء في الغنم والأعداء في الغرم. والحال أن نهج الحريري الاقتصادي- الاجتماعي لم يكن مما يريح أي مهتم بتحقيق حد أدنى من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وبناء دولة الرفاه.
لكن المفارقة الكبرى، أن كل الانتقادات التي وُجهت الى سياساته والتي تتكرر في صحف الممانعة حتى اليوم، لم يكن لها أي علاقة بالسبب الحقيقي وراء اغتياله. جاء الاغتيال «أهلي» الطابع (أو على صلة بـ «العصبية» بالمعنى الخلدوني)، فيما الانتقادات كانت توجه الى «الرأسمالية المتوحشة».
حسام عيتاني