هل تمثّل داعش شيئاً من الإسلام؟

2

لعلّ هذا السؤال هو أكثر ما شغل الرأي العام والإعلام العربيّ منذ أن ظهر تنظيم الدولة الإسلاميّة كلاعب أساسي على الساحة السوريّة (ابتداءً من حزيران 2013). طرح كثير من المسلمين هذا السؤال، غالبيّتهم من الثوّار أو المعارضين للنظام السوريّ، والذين وجدوا أنفسهم مُتّهمين بحمل الأسس الفكريّة ذاتها التي تقوم عليها ممارسات هذا التنظيم. فجاء طرحهم للسؤال كمدخل لإثبات عدم انتماء هذا التنظيم إلى الإسلام الذي يدينون به. لقد شعرت هذه الشريحة بأنّها وقعت في ورطة حقيقيّة مع ظهور داعش، وأنّ هذا التنظيم هو أسوأ ما يمكن أن يصيب الثورة السوريّة، في أهدافها وقيمها، وفي صورتها أمام العالم أجمع. لاحقاً، حدث ما هو أسوأ من ذلك، فبعد أن بالغ تنظيم الدولة في انتهاكاته الوحشيّة، سيّما بعد أن أقدم التنظيم على تحرّيق الأسير الأردنيّ، وجد الثوّار أنفسهم (ومعهم عموم الإسلاميّين) أنّ الثورة لم تعد وحدها المستهدفة، بل إن هذه الممارسات وضعت إسلامهم في مرمى نيران خصومهم الفكريّين في المجتمعات العربيّة، وفي مرمى نيران كثيرٍ من مُنظّري الغرب؛ جلّهم من اليساريّين المصابين بالإسلاموفوبيا، وأصحاب الفكرة القائلة إنّ دعم الثورات العربيّة لإسقاط أنظمتها لن يجلب إلا الحكم إلا أصحاب الإسلام الجهاديّ المتطرّف..

وفي المقابل، فإن السؤال لاقى رواجاً واسعاً بين اليساريّين والليبراليّين، وعموم اللا دينيّين، فاهتمّوا به اهتماماً منقطع النظير. وقد سعى غالبيّتهم إلى التأكيد على إسلاميّة داعش، من خلال نبش كتب التاريخ للبحث عن ممارساتٍ مماثلة؛ فعلوا ذلك عندما بدأ تنظيم الدولة بقطع رؤوس خصومه حين تمكّن منهم، حيث لم يكن يصعب عليهم العثور على وقائع تاريخيّة يثبتون من خلالها التلازم بين السيف والإسلام، ثمّ التلازم بين الإسلام وداعش، على اعتبار أنّ الأخيرة تمثّل تطبيقاً من تطبيقاته، أو هذا ما أراد إثباته طيفٌ واسع من خصوم الإسلاميّين.

تعاني مجتمعاتنا من فرط التسيّيسٍ الذي يرخي بظلاله على معظم الخصومات الفكريّة الدائرة فيها، مما يُفقد النقد مصداقيّته. فقد تناول الإعلام الرسميّ العربيّ حادثة إحراق الكساسبة على نطاقٍ واسع، وكان الإعلامي المصري إبراهيم عيسى أكثر الذين أثاروا الجدل في معالجته للحادثة، ويصلح كلامه لأن يكون مدخلاً لفهم منهجيّة التفكير عند أصحاب هذا الرأي، فقد أشار إلى أن كلّ الأسانيد التي تقدّمها داعش لتبرير جرائمها موجودة في كتب التراث، قائلاً إنّ أبا بكرٍ الصدّيق حرق الفجاءة السلمي حيّاً!

لقد وجد كثير من الإعلاميّين (غير المستقلّين وأكثرهم يتبعون أنظمة العسكر) الفرصة مواتية للانقضاض على خصومهم بشكلٍ موسّع، إذ إنّ المرحلة تقتضي تقويض الفكر الذي يقوم عليه مجمل تيّار الإسلام السياسيّ، لا مجرّد تعرية النسخة المتطرّفة منه، بما يتماشى مع مصلحة أنظمة الاستبداد!

لا شكّ وأنّ ما يطرحه بعض هؤلاء يراد به الباطل، لكن هل يمكن القول بأنّه كلمة حق، أو أنّ فيه شيئاً من الحق الذي يراد به الباطل؟

في الواقع، الكلام باطل ويراد به الباطل أيضاً، فمن نافلة القول أنّ كتب التراث ليست الإسلام، لأنّها (وبحسب فقهاء ومحدّثي الإسلام أنفسهم) تضمُّ (على مستوى الروايات): الصحيح والضعيف والموضوع.. بات يعلم هذه الجزئيّة حتى أصحاب الثقافة الإسلاميّة من عوام المتديّنين. أمّا النخب الإسلاميّة، فباتت تثير اليوم نقاشاتٍ أوسع حول بعض الروايات الصحيحة أيضاً، إن كان بعضها يتعارض مع مقاصد النصّ القرآنيّ ! فالرواية تفتقد بشكل عام إلى حَرفيّة النقل، ما يجعل لفهم الراوي (أو لشخصه) نصيباً فيها، حتّى وإن كان إنساناً صدوقاً ثقة.. أمّا السند الذي نُسبت عمليّة الحرق من خلاله إلى أبي بكرٍ الصدّيق فهو سند ضعيف، والرواية واردة عن (علوان بن دَاوُدَ البجلي) من هو منكر الحديث أو مطعونٌ في روايته!

فلماذا يريد بعضهم تعريف الإسلام من خلال الروايات المشكوك فيها، بينما يسقط من تعريفهم له رأي المحدّثين وأهل الاختصاص في الرواية؟! وإذا وضعنا أيّة رواية مقابل نقدها، فهل يبقى لها دور يُذكر في تعريف الإسلام؟! انطلاقاً من هذه الجزئيّة، يمكنني القول إنّ الإسلام هو (فقط) ذلك الجوهر الفكريّ، الذي لا يمكن تقويضه (من داخل بنيته الفكريّة تحديداً).

لا شكّ وأن في التجربة التاريخيّة للمسلمين وقائع كثيرة مثيرة للجدل، بل وتستحق أقصى عبارات الاستنكار، وهل يخلو تاريخ أمّة من حالاتٍ كهذه؟! ولكنّها لا تُستنكر بالنظر إليها اليوم بعقل الحداثة المعاصرة، لأنّ من المجحف محاكمة تجربة تاريخيّة، تنتمي إلى قرونٍ خلت، بعقلية القرن الحاليّ ! فأيّ تجربة تقارن بتجربة معاصرة لها، أو بعقليّة تراعي هذه الاعتبارات، وهذه موضوعيّة لا تتوفّر عند غالبيّة الناقدين للتطبيقات التاريخيّة للإسلام ! هذه الوقائع الشاذّة (وإن كانت كثيرة) مُستنكرة في متن النصوص المثبتة قبل أن تكون مستنكرة وفق مناهج التفكير الأخرى. وسيلاحظ القارئ للتاريخ أنّ أصحاب هذه الممارسات (وكانوا أصحاب سلطة بصفة عامّة) قوبلوا بمعارضات شديدة، وبذل المعارضون تضحيات هائلة في مواجهة بعض الذين أساءوا إلى فكرة الإسلام ومقاصده الكبرى.

تلتقي داعش إذن (وبالتحديد) مع بعض أعتى المستبدّين في تاريخ الإسلام، وقد نجد شيئاً من ممارساتها في بعض مراحل الإسلام ما بعد الراشديّ.. لكنّ مشابهتها للمستبد التاريخي لا يمنحها قرباً من الإسلام أو مسوّغاً لادّعاء تمثيله؛ وإنّ محاولة بعض الليبراليين إلصاق ممارسات هذا التنظيم برسالة الرحمة والتوحيد، لا تختلف من حيث التسطيح والبدائيّة الفكريّة عن سعي التنظيم لاحتكار هذه الرسالة!
عماد العبار

Leave A Reply

Your email address will not be published.