لا «إسلام سياسياً» في الغوطة ولا «بي كي كي» في عفرين
عبدالوهاب بدرخان – الحياة
المنتصر دمّر سورية. المهزوم ساهم في التدمير. كلاهما خاسر، والرابحون معروفون ومتسلّطون عليهما. نظام بشار الأسد يعتقد أنه باقٍ ويتوسّع لكنه قلق من الحلفاء والأعداء. المعارضة شعرت بهزيمة في الغوطة لكنها تلقي المسؤولية على الفصائل التي كانت تقاتل فيها. ما انتصر واقعياً هو نهج التقاسم والمقايضة بين الدول المتدخّلة، وقد اختُصر أخيراً بـ «عفرين (لتركيا) مقابل الغوطة (لروسيا وإيران)». ليس للنظام أو للمعارضة وجود فعلي في هذه اللعبة إلّا في نطاق الأدوار التي أوليت إليهما. لم يعد أحد يتحدّث عن «حلٍّ» قريب أو بعيد. إذا حصل إحياء للبحث عن «حل سياسي» فلن يحصل قبل السنة المقبلة، وبعد أن يُصار إلى تغييرٍ في معالمه وأطرافه، بل هناك مَن يتوقّع قراراً دولياً آخر وربما مبعوثاً أممياً آخر، وعموماً كانت صلاحية المبعوث الحالي انتهت منذ زمن.
لم يستطع الضجيج الدولي تغيير شيء في معركة الغوطة، وحتى المطالبون بوقف إطلاق النار لم يكونوا يعتقدون للحظة بأنه سيتحقّق، بقرار من مجلس الأمن أو من دونه. لعل التغيير الطفيف هو ما أحدثه استعداد أميركي لضربة صاروخية أحيط الروس علماً مسبقاً بها فأنزلوا ضباطهم وجنودهم، ليس فقط للانتشار الرمزي في المباني والمعسكرات أو للإشراف عن كثب على سير المعارك، بل لإيهام الأميركيين بأن الغوطة في كنف روسيا لا إيران، باعتبار أن الوجود الإيراني كان الذريعة للضربة الأميركية التي لم تحصل، لكن هل غابت إيران عن المعركة؟ طبعاً لا، فهي توارت عن الواجهة الإعلامية وكانت مصادرها السبّاقة إلى إعلان الجديد ميدانياً، من أنباء تقسيم الغوطة إلى وقائع التفاوض واتفاقات التهجير القسري. أظهرت الوقائع أن الغوطة كانت مجرّد معركة مؤجّلة، وما كان المدافعون عنها ليقووا على الاحتفاظ بها، لكن كانت ثمة أولوية لحلب ثم للسباق إلى كسب مناطق «داعش». وعندما حان وقت الغوطة كان قد حان أيضاً وقت عفرين.
على رغم الاستشراس الروسي (والأسدي) باستخدام كل الأسلحة المحرّمة، من القنابل الفوسفورية والعنقودية إلى الغازات السامة، والتكرار اليومي للإدانات والدعوات إلى وقف النار تنفيذاً للقرار الدولي، فرضت العمليات العسكرية منطقها وتعالت الأصوات والاستغاثات التي تعيب على الموقف الدولي تخاذله. لا، لم يكن هناك تخاذل. كان هناك اتفاق على إنهاء الحال التي أقامها «الإسلام السياسي» في الغوطة. وكما في حلب سابقاً كذلك في الغوطة أخيراً، لم يكن هناك تعارض أميركي – روسي على الهدف بل على التفاصيل. أواخر 2016، سقط شرق حلب في لحظة أميركية انتقالية ولم يولِ الروس اهتماماً لملاحظات واشنطن فدخل الإيرانيون وتوّجوا «انتصارهم» بحال من الاستباحة للبشر والحجر.
ما تغيّر بالنسبة إلى الغوطة، ولا يزال في حاجة إلى إثبات، هو أن الروس اضطرّوا إلى أخذ التهديدات الأميركية على محمل الجدّ، تحديداً لأن المعركة صادفت استحقاق إعادة انتخاب فلاديمير بوتين رئيساً، وسبقتها سلسلة وقائع كان أخطرها إسقاط مقاتلة «سوخوي 25» بل الأكثر خطراً كان السقوط الغامض لطائرة «أنطونوف» في قاعدة حميميم ومقتل ركابها الـ32، إضافة إلى عشرات القتلى من مرتزقة «فاغنر» ومعظمهم من الشيشان الذين لا تبالي موسكو بمصيرهم لكنهم يعملون في خدمتها. كل ذلك اضطر الروس لاتّباع سلوك مختلف في الغوطة، إذ لم يعوّلوا على دورٍ متقدّم للإيرانيين في الاقتحامات البريّة واستعاضوا عنها بمنسوب عالٍ من الوحشية في الهجمات الجوية. ولم يكن الإخلاء الجماعي مطلوباً في الغوطة كما في أماكن أخرى بل انسحاب المقاتلين وعائلاتهم، فضلاً عن الراغبين، مع «ضمان» روسي في إمكان عودتهم بعد فترة. وكان واضحاً استقدام أعداد إضافية من الشرطة الروسية لتولّي أمن المناطق المستهدفة، لكن هؤلاء لم يعطوا أولوية لدخول الإغاثة الدولية، ما أتاح للمدعو محمد قَبَنّض وهو «شبّيح» عضو في ما يسمّى «مجلس الشعب» تنظيم رحلة إذلال بعضٍ من السكان وإجبارهم على الهتاف للأسد لقاء شيء من الماء والطعام.
وبالعودة إلى عفرين شمالاً، حيث الطرف الآخر من «الصفقة»، يتبيّن كثير من التشابه بين موقف تركيا من الأكراد وموقف النظام وحلفائه من فصائل الغوطة، فالطرفان يصفان أعداءهما بـ «الإرهابيين»، ثم إن هؤلاء ارتكبوا أخطاء أكانوا مدركين أو مندفعين فقط وراء أهدافهم من دون أن يعوا أن اللعبة الدولية يمكن أن تنقلب عليهم. ففي مقابل تصفية وجود الإسلاميين على اختلاف انتماءاتهم في الغوطة، كان لا بدّ من المقايضة بتصفية وجود البنية القتالية الكردية في جيب عفرين، إذ استوجب أيضاً إنهاء الوضع الذي أسسه الـ «بي كي كي» (حزب العمال الكردستاني) وفرعه السوري. فالدول رسمت خرائطها وباشرت تنقيحها بعدما حدّدت أهدافها وخياراتها، ولم يكن متوقّعاً أن تحبط روسيا والولايات المتحدة مطالب تركيا إلى ما لا نهاية أو أن تواجها أنقرة وتُخضعا مصالحهما للطموح الكردي بالتمدّد إلى البحر المتوسّط. وكما تحاول موسكو تكييف إدارتها لسورية وفقاً للتحركات الأميركية ووجدت مصلحةً في تسهيل إنشاء منطقة نفوذ تركية، كذلك انتقلت واشنطن من صدّ متواصل لأنقرة إلى التنسيق معها، خصوصاً في شأن ضبط الحدود السورية – التركية.
كان متوقَّعاً، ومتَدَاولاً، أن تستقبل تركيا مهجّري الغوطة من مدنيين ومقاتلين («فيلق الرحمن»، «أحرار الشام»…) في منطقة «درع الفرات» لكنها رفضت فنُقلوا إلى إدلب، حيث يزداد المزيج الأيديولوجي للمقاتلين تناقضاً وتعقيداً. رُفض أيضاً انتقال مقاتلي «جيش الإسلام» إلى مكانٍ ما في الجنوب بالقرب من الحدود الأردنية. ثمة دلالات في هذه المواقف الرافضة، وأهمها أن حتى الدول الداعمة لا تعرف ما عساها تفعل بهؤلاء المقاتلين، طالما أن الهدف الأساسي من دعمها لهم (مواجهة النظام أو العمل على إسقاطه) جرى طيّه وتذويبه في ثنايا اللعبة الدولية. لذلك، يُطرح السؤال عمّا يُتوقَّع تالياً، وعلى رغم أن المرحلة المقبلة تبدو بالغة الغموض والتشوّش فإن جزءاً منها يرتبط بـ «مسار آستانة» الذي اتّضح الآن أن هدفه الرئيسي والوحيد تأمين مصالح أطرافه الثلاثة، أي روسيا وإيران وتركيا. أما الجزء الآخر فيرتبط بمسار التفاهمات الروسية – الأميركية إذا أمكن تجديدها وتفعيلها. في «مسار آستانة» تطغى مظاهر التوافق لكن وقائع التناحر واضحة على الأرض، فالإيراني يشاطر حليفه الأسدي التعاون الروسي – التركي الذي فرضت موسكو نتائجه عليهما ولا يفوّتان أي فرصة للالتفاف عليه. ومع أن مظاهر المواجهة واضحة بين الأميركيين والروس، إلا أنها لا تعني انتفاء التنسيق والتفاهمات.
لا شك في أن مسألة عفرين ستكون حاضرة في القمة المقبلة لشركاء آستانة، خصوصاً أن الأتراك يريدون التمدّد إلى منطقة تل رفعت ليصبحوا في موقع منه يستطيعون اختبار اتفاقات تحرى بلورتها حالياً في شأن منبج وغيرها. لكن الإيرانيين لديهم مآخذ كثيرة على عملية «غصن الزيتون»، وربما يشاركهم الروس ضمناً، أبرزها وهو موقع أحد فصائل «الجيش السوري الحرّ» الذي اعتمد عليه الأتراك ويبدو أنهم يريدون إعطاءه أدواراً في منطق أخرى، منها مثلاً إدلب التي كان الشركاء وضعوا خطة للتعامل مع الوضع فيها ومن الواضح أن الإيرانيين (والنظام) يريدون مراجعتها وتعديلها. غير أن شراكة آستانة لم تعد شاملة كل الأنحاء السورية، بل شهدت اختراقات عدة في مناطق النفوذ الأميركي شمالاً وجنوباً، وليس معلوماً كيف ستتحوّل هذه الشراكة أو كيف ستتعامل مع الضربة الإسرائيلية (- الأميركية) المرتقبة للوجود الإيراني في سورية. يتم تداول أيار (مايو) موعداً لهذه المواجهة لكن التخلّي الأميركي المتوقّع عن الاتفاق النووي والقمة الأميركية – الكورية الشمالية استبعداه، لذلك يُشار إلى تشرين الأول (أكتوبر) كموعدٍ «أكثر واقعية!».