الانتقال الديموقراطي إلى الديكتاتورية
محمد علي فرحات – الحياة
الانتخابات المبكرة في تركيا (في 24 حزيران/ يونيو المقبل) قررها الرئيس رجب طيب أردوغان لأنه لا يستطيع انتظار الموعد المحدد لئلا تبرد سخونة نجاحاته في احتلال أجزاء من شمال سورية، وفي عقد حلف غير طبيعي مع خصمي تركيا الطبيعيين في الإقليم، إيران وروسيا، وفي استمرار عضويته في الحلف الأطلسي وما يترتب من علاقة خاصة مع أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
وإذا نجح أردوغان وحزبه، وهذا مرجّح، فسيجري تعديلات دستورية تؤدي إلى نظام رئاسي يعفيه من تجديد حال الطوارئ كل ثلاثة أشهر. يقول خصوم زعيم «حزب العدالة والتنمية» أنه سائر إلى التشبُّه بمرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، مع فارق التسمية، وسيصل به الأمر إلى سلطة فوق السلطات لا تطاولها الانتخابات مهما كانت نتائجها.
وبدرجة أقل من طهران ومرشدها وأنقرة و «خليفتها»، يتّجه مسار الديموقراطية الإسرائيلية مع الكتلة اليمينية التي يرأسها بنيامين نتانياهو إلى تجديد يتكرر مع كل محطة انتخاب، بحيث يعجز المواطن الإسرائيلي عن تخيُّل حاكم لبلده غير نتانياهو، كما يفقد المعارضون شيئاً فشيئاً أهليتهم لتسلّم الحكم نتيجة هامشيتهم السياسية وافتقادهم الحضور في موقع القرار، أو حتى في التأثير في تكوين القرار نتيجة ضغوط واقتراحات بناءة تحرج الكتلة الحاكمة فتضطر إلى أخذ آرائهم في الاعتبار.
الحاكم الأوحد أو الديكتاتور أو المسميات المتنوّعة بحسب ثقافات الأمم، لا يقبض على الحكم بالضرورة نتيجة انقلاب عشائري أو إثني أو عسكري، فهو يصل أيضاً بطريقة شرعية مثلما فعل هتلر حين تولى مستشارية جمهورية فايمار الألمانية بالانتخاب، ليعمد لاحقاً إلى القبض على المنصب وتعديل القوانين بما يسمح بكونه ديكتاتوراً.
هكذا تكرس الديموقراطية نفسها وسيلة لتجديد الحكم والحاكمين وتداول السلطة، كما يمكن أن تؤدي إلى ديكتاتورية تكون هي أولى ضحاياها.
هتلر لن يستعاد، لكن أشباه ظاهرته في غير مكان من عالمنا، وقد يشكلون خطراً على الديموقراطية حتى في مهدها الأوروبي والأميركي. أما في عالمنا العربي والإسلامي فلا تغيب عن الجماعات الدينية أو الأهلية شعارات تنسب الفشل إلى الديموقراطية أو تتهمها بأنها صيغة غربية للحكم لا تلائم مجتمعاتنا، وتصل إلى حد وصمها بأنها مؤامرة استعمارية.
أقرب الانتخابات زمنياً في منطقتنا ستتم في لبنان والعراق (في 6 و12 من الشهر المقبل) وتبدو بيانات المرشحين واصطفافات المواطنين أشبه بفولكلور محلي، لأن نتائجها لن تحقق غالبية واضحة بقدر ما يحقق هذا الطرف أو ذاك حضوراً أقل قليلاً أو أكثر قليلاً في البرلمان. ويبقى الحكم في لبنان والعراق أسير المعادلات الإقليمية القائمة، وجلّ ما يمكن أن يكسبه المواطن في البلدين إيصال نواب قادرين على اشتراع قوانين تلجم الفساد والانهيار الأخلاقي في مؤسسات الحكم.
الانتخابات التركية مختلفة. نحن أمام بلد محوري في الشرق الأوسط، يحكمه حزب إسلامي ذو طموح إلى التأثير عميقاً في بلاد كانت خاضعة قبل الحرب العالمية الأولى للسلطنة العثمانية. والرئيس التركي ماهر في اللعب على التناقضات، فهو حليف أوروبا والولايات المتحدة لكنه يشاكسها ويتقرّب من روسيا وإيران خصمي الغرب اللدودين، وهو يطلق جماعات مسلحة موصومة بالإرهاب ثم يعمد إلى محاربتها، كما يتقرّب من بلاد شرق أوسطية بينها إسرائيل ثم يخاصمها في محطات كثيرة.
وفي الداخل التركي يبدو حليفاً للقوميين، لكنه يهادن الأكراد سراً ويقنعهم بأنه أرحم الخصوم في منطقة تكنّ لهم العداء. وإذ يرسم لنفسه مساراً يؤدي إلى حصر السلطة بنفسه، لا ينسى قوة خصومه الأتاتوركيين فيعمد إلى تفتيت قواهم وتكسير تحالفاتهم. وحدها المعجزة تحدّ من طموح أردوغان إلى الديكتاتورية. يقول العارفون في أنقرة أن قبول عبدالله غل أو علي باباجان، الشخصيتين البارزتين في «حزب العدالة والتنمية»، بالترشُّح ضده هو ما يحقق هذه المعجزة.