سورية وطن مرغوب وشعب مغلوب على أمره
عبد الباسط سيدا – الحياة
هل ستبقى سورية بحدودها وشعبها كما كانت؟ سؤال مشروع طُرح، ويطرح، باستمرار من قبل السوريين وغيرهم، وذلك في ضوء المتغيّرات والتعقيدات التي تُجرى وتتراكم تباعاً في الساحة السورية، هذه الساحة التي باتت ميداناً لتحرّك القوى الإقليمية والدولية بصور مكشوفة بعد إزاحة الفصائل العسكرية بتوجهاتها ومشاريعها المختلفة عن المشهد، لتصبح كتلة رديفة تعمل تحت إمرة القوى المشار إليها، وذلك بحسب الولاءات التي لم تعد خافية على أحد.
وهذا فحواه أننا بدأنا نقترب من مرحلة تثبيت أحجار حدود مناطق النفوذ التي ستكون على الأغلب مشاريع لتقسيم غير رسمي لسورية بين كيانات، أو أقاليم، عدة، باتت ملامحها شبه واضحة سواء في الجنوب، أم في القسم الغربي، أم الشمالي الغربي، وأخيراً في الشمال الشرقي.
ويبدو أن التوافقات قد تمت على الإطار العام لخطة ما زالت في حكم المجهول بالنسبة إلى السوريين. غير أن متابعة التطورات والتصريحات والتموضعات، توحي بوجود صيغة من صيغ التفاهم والتكامل بين مختلف الأطراف. فما جرى في الغوطة الشرقية، وما يجري راهناً في القلمون وجنوب دمشق، ليس بعيداً كما جرى في منطقة عفرين، وربما عما سيجري في ادلب وريف كل من حماة وحلب.
كما أن الترتيبات التي تجري في منطقة شرق الفرات، والتصريحات الأميركية المتلاحقة المتباينة بخصوص الانسحاب والتريث، والحديث عن إدخال قوات عربية إلى المنطقة الشرقية، والصمت المتفق عليه حول المنطقة الجنوبية الي لا يمكن ترتيب أمورها بمعزل عن تفاهم أميركي- روسي- إسرائيلي- أردني.
هذا إلى جانب بعض التصريحات الروسية ذات العلاقة باحتمالية تقسيم سورية التي تطفو على السطح من حين إلى آخر، وربما أهمها التصريح الأخير لنائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف.
وتجدر الإشارة أيضاً في هذا السياق إلى بعض التصريحات التي صدرت عن دي ميستورا في مناسبات عدة، وهي تصريحات أعطت انطباعاً بأن خيار التقسيم ليس مستبعداً، لا سيما في ظل أجواء عدم وجود إرادة دولية حقيقية لمعالجة الموضوع السوري بصورة واقعية ممكنة، بل ما نراه هو ما يتمثّل في تعددية المسارات التي من الواضح أنها تنسجم أكثر مع احتمالية التقسيم بين كيانات نفوذ، تعمل كل جهة على تحسين مواقعها ضمن الكيان الذي ستشرف عليه.
وعلى الأكثر لن تكون هناك مشكلات كبرى في منطقتي الشمال الغربي والجنوب، وذلك على عكس المنطقة الأوسع في القسم الغربي من سورية التي سيتقاسمها النظام مع كل من روسيا وإيران. فالنظام، الذي يعرف تماماً أنه استمر بفعل الدعم المستمر من جانب حليفيه اللدودين، يدرك جيداً أن القرار السيادي لم يعد في متناوله، وأنه قد بات الواجهة التي تغطي الحسابات الروسية والإيرانية. ولن يكون من السهل بالنسبة إلى هذا النظام أن يوفّق بين المتطلبات الروسية والإيرانية، لذلك فمن المتوقع أن تكون هناك تصدعات بين أجنحته المختلفة بمجرد انتهاء العمليات العسكرية القيصرية، وذلك تبعاً للولاءات والأولويات.
أما بالنسبة إلى كل من روسيا وإيران، فلكل طرف أهدافه، التي قد تتقاطع حيناً بصورة مرحلية، ولكنها على المدى البعيد متفارقة. فروسيا تريد عبر سورية حضوراً قوياً في الشرق الأوسط. وهي تدرك جيداً أن حضوراً كهذا لا يمكن أن يستند إلى العلاقة الوطيدة مع إيران وحدها، بل لا بد من بناء العلاقات مع القوى الإقليمية الأخرى، مثل تركيا وإسرائيل والسعودية ومصر، الأمر الذي سيتعارض عاجلاً أم آجلاً مع المشروع الإيراني. أما عن آفاق هذا التعارض، ومآلاته المرتقبة، وإمكانية احتوائه، فكل ذلك يتوقف على نتائج طبيعة وحدود الدور الأميركي، الغربي، في سورية والإقليم عموماً.
أما المنطقة الشرقية، أو الشمالية الشرقية، الخاضعة للنفوذ الأميركي بالتنسيق مع قوات سورية الديموقراطية، التي تشكل قوات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، فهي الأخرى لم تتبلور ملامحها النهائية بعد. ولكن الذي يُستشف من السياسات والتصريحات الأميركية هو أنها لن تكون منطقة لمشروع «دولة كردية» كما يُروج هنا وهناك لكسب نقاط سياسية من جانب هذه القوة أو تلك، أو حتى الحصول على المزيد من التأييد على صعيد السياسة الداخلية. فالمنطقة في الأساس مختلطة، وقد تراجع فيها الوجود الكردي نتيجة الهجرة الواسعة، وهذا معناه أن أي مشروع أميركي في المنطقة سيعتمد على صيغة من العلاقة الإدارية بين المناطق الكردية في شمال الجزيرة السورية وصولاً إلى كوباني/ عين العرب، والعربية السنية جنوباً، الأمر الذي ربما يطمئن تركيا، ويبعد منها هاجس الانفصال الكردي، وربما هذا ما يفسر المطالبة الأميركية بقدوم قوات عربية إلى المنطقة لتتولى مسؤولية الإشراف عليها، والدفاع عنها. وقد تُعتمد صيغة مشابهة في العراق أيضاً على صعيد العلاقة بين الكرد والعرب السنة، وذلك في إطار عملية إعادة هيكلة شاملة للمنطقة على صعيد الكيانات والعلاقات في ما بينها، والمعادلات التوازنية، وضبط عملية ترسيم الحدود الجديدة، وقواعد التعامل.
ونحن لا نذيع سراً إذا قلنا إن محنة السنوات السبع التي عاشها السوريون في مختلف المناطق قد أضعفت النزعة الوطنية لدى أوساط واسعة منهم، لا سيما أولئك الذين تعرضوا لبطش النظام ومجازره، وقصفه إياهم بكل أنواع الأسلحة، وارتكابه كل الجرائم بحقهم. فهؤلاء إذا ما خُيروا بين البقاء في ظل حكم بشار الأسد بعد كل الذي حصل، وبين التبعية لهذه الجهة الأجنبية أو تلك مقابل ضمان الحد الأدنى من الاستقرار الأمني، فالغالبية الغالبة ستفضل، ومن دون أي تردد، الخروج من دائرة نفوذ آل الأسد.
وما يرجّح كفة هكذا خيارات صعبة هو عدم وجود قوة وطنية منظمة متماسكة، تطرح برنامجاً مطمئناً لجميع السوريين، وتمتلك شعبية واضحة مؤثرة في مختلف المناطق السورية، ومن جانب سائر المكوّنات المجتمعية السورية.
وعلى رغم جهود كثيرة بذلت، وتبذل، هنا وهناك لإيجاد هكذا قوة، فإنه لم يتم التوصل بعد إلى المطلوب حتى الآن لاعتبارات عدة، منها نخبوية تلك الجهود، أو اقتصارها على وسط معين، أو عدم قدرة أصحابها على القطع مع المنظومة المفهومية التي رسختها في أذهانهم سلطة الاستبداد على مدى عقود. فما زال الكثير ممن يعلنون انحيازهم للمشروع الوطني السوري، ودعوتهم إليه، يصرّون على المفاهيم الماضوية من قومية أو دينية، ويكتفون بالمجاملات الخاوية في سياق تعاملهم مع قضايا جادة، تستوجب رؤية واضحة، وممارسات ملموسة تعزز الثقة.
إن غياب البديل الوطني المقنع، يزيد في حظوظ بقاء بشار الأسد كواجهة للتغطية على كل ما يخطط لسورية. وإذا ما استمرت الأمور على هذا المنوال من دون أي اختراق فاعل، فليس من المستبعد أن نكون بعد حين أمام «أجنة» تكون مستقبلاً مشاريع سوريات عدة بنكهات الدول المعنية.