يحدث في عفرين
عمر قدور
تقترب مدة سيطرة الجيش التركي والميليشيات السورية المتعاونة على عفرين من الشهرين، ولا أفق ينبئ بتحسن الوضع هناك، بل هو مرشح لمزيد من التعقيد والاحتقان. وعندما نتحدث عن قرابة شهرين فذلك يعني انجلاء السياسات المتبعة، إذا اعتبرنا فوضى الأيام الأولى للسيطرة خارج تلك السياسات، وإذا اعتبرنا دخول تلك القوات إلى مناطق غريبة عنها تماماً سيوقعها في الإرباك والمشاكل التقنية أو اللوجستية.
أما إذا غادرنا حسن الظن فالفوضى التي سادت في الأيام الأولى بعد الاجتياح يستحيل اعتبارها أعمالاً فردية غير مسؤولة، حتى إذا استغلها بعض الأفراد واقتفوا أثر تلك الميليشيات سطواً ونهباً للممتلكات. وفي الواقع كانت الأحاديث تدور، بين عرب المنطقة قبل أكرادها، عن فترة سماح أُعطيت للميليشيات المهاجمة كي تستبيح المنطقة، والطريقة التي حدثت بها عمليات السطو كانت حقاً من أبشع ما حصل، ولا يضاهيها سوى أعمال “التعفيش” الضخمة التي تقوم بها قوات الأسد.
كانت أقاويل الأيام الأولى تتكهن أيضاً بتدخل تركي لفرض النظام، بعد أن يؤدي الانتقام أغراضه، سواءً بسبب ثأر لفصائل سبق للميليشيات الكردية أن احتلت مناطقها، أو لجهة تعزيز العداء الكردي-العربي. وفق ذلك التصور، الذي يبدو أكثر ذكاء من السياسة المتبعة، كان يمكن للحكومة التركية أن ترسل إشارات إيجابية إلى السكان الأكراد بتحميل الفصائل المهاجمة مسؤولية جميع الانتهاكات، طبعاً في حال باشرت مسؤولياتها القانونية الكاملة بوصفها قوة احتلال، الأمر الذي لم يحدث لا لأن أنقرة تتحاشى الظهور كقوة احتلال، وإنما لأن سياساتها العامة تجاه الأكراد تحمل من العنجهية والصلف ما يمنع توجيه أية إشارة إيجابية.
إننا نتحدث عن انتهاكات على نطاق واسع، أولها القيام بعمليات سطو ممنهجة، طالت الممتلكات الخاصة بما فيها المقتنيات الشخصية جداً، ومن ثم الاستيلاء على بيوت المدنيين الذين نزحوا من المنطقة، وليس أخيراً منع المدنيين من العودة بعد السماح لبعضهم بشكل اعتباطي. وبالتأكيد فإن أخطر هذه الانتهاكات ما بدأ يحدث، ويُفهم على نطاق واسع بأنه مشروع للتغيير الديموغرافي، وإذا كان الاستيلاء على بيوت السكان الأصليين يحتمل تأويلات مختلفة في البداية فإنه مع استغلال مأساة نازحي الغوطة، وربما في ما بعد نازحي الأحياء الجنوبية لدمشق أو ريف حمص الشمالي، وإسكانهم في بيوت مُستولى عليها لا يمكنه فهمه إلا على نحو واحد؛ هو استكمال مشروع التغيير الديموغرافي الذي بدأه تنظيم الأسد، بحل مشكلة هؤلاء على حساب مهجّرين آخرين. لا يصحّ هنا الحديث عن نوايا طيبة أو إنسانية إزاء مأساة مهجّري الغوطة، فلو كانت النوايا طيبة حقاً إزاء المهجّرين والسكان الأصليين لتمّ إيواؤهم في مقار مؤسسات عامة وفي عفرين الكثير منها، المدارس على سبيل المثال، بدل التظاهر بعودة الأخيرة إلى العمل التعليمي فقط لتصويرها وإظهار العلم التركي عليها مع صور أردوغان بدلاً من صور أوجلان.
قد يُقال أن أكراد عفرين يدفعون ثمن انتهاكات الميليشيات الكردية من قبل، وثمن تحالف الأخيرة مع تنظيم الأسد ضد الثورة. وبلا أدنى شك في سجل هذه الميليشيات ما يكفي من الأخطاء السياسية ومن الانتهاكات الممنهجة، ومنها الاتهامات التي تتعلق بالتغيير الديموغرافي في أماكن سيطرتها في تل أبيض وعين عيسى وسواهما. إلا أن معاقبة أية مجموعة بشرية بسبب تنظيم سياسي وعسكري ينتمي إليها أمر غير مقبول أخلاقياً وقانونياً، وأي تبرير من هذا القبيل يصب في تبرير نهج الإبادة والتدمير والتهجير الأسدي. ثم إن من أدان انتهاكات الميليشيات الكردية من قبل مطالبٌ الآن بإدانة انتهاكات نظيرتها العربية على القدر ذاته من القوة، وما ينبغي أن يكون دافعاً إضافياً للإدانة في الحالتين وجود حساسية عربية-كردية تفاقم من شأن الانتهاكات وتضعها في خانة ترسيخ العداء بين الطرفين حاضراً ومستقبلاً.
وفي الحساب السياسي البسيط جداً تبدو الميليشيات الكردية مستفيدة، على رغم الادعاء بأنها المستهدف الرئيسي من اجتياح عفرين، فالانتهاكات الحالية في حق السكان تجعل من الانتهاكات السابقة التي مارستها أمراً مقبولاً، خاصة مع تغلب البعد العاطفي وعدم تحميلها مسؤولية الخسارة بحكم أنها كانت سلطة الأمر الواقع. الخاسر الأكبر في الساحة الكردية هم خصوم الميليشيات، من أحزاب المجلس الوطني الكردي والمستقلين. المجلس الوطني الكردي تحديداً، بحكم تحالفه مع المعارضة ووجوده في الائتلاف، خسر خسارة كبيرة بتغطية الائتلاف اجتياح عفرين ومن ثم تغطيته أو صمته على الانتهاكات المستمرة فيها، ومن نافل القول أن ما يخسره المجلس الوطني وسواه يصب بغالبيته لصالح الميليشيات. كانت هناك فرصة أفضل نسبياً لو أُعطي المجلس فرصة إدارة المنطقة، لولا أن القيادة التركية غير مستعدة إطلاقاً لمنح أي طرف كردي الحق في الحكم، وهذه السياسة من المحتم أن تخدم الجهات الأكثر راديكالية في صفوف الأكراد تركياً وسورياً.
إننا إما إزاء عملية تغيير ديموغرافي محدودة كمّياً أو زمنياً، وهذه سيدفع ثمنها المهجّرون الذين تم توطينهم، ولن يُكتب لها النجاح بحكم الكفة التي ستبقى راجحة جداً للأكراد. أو أننا في بداية عملية تغيير واسعة، وهذه أخطر بما لا يُقاس إذا كانت تحظى بتغطية دولية وإقليمية، لأنها تتضمن عدم عودة المهجّرين إلى أماكنهم، سواء أكانوا مهجّري عفرين أو مهجّري الغوطة. الفرضية الأخيرة تعني أن كافة عمليات التغيير الديموغرافي، بما فيها المتهمة بها الميليشيات الكردية وتنظيم الأسد والحالية، حدثت وتحدث ضمن مخطط شامل لتغيير البنية السكانية في سوريا، وغاية التغيير إذا لم تكن التقسيم لن تكون أقل منه فظاعة وبشاعة ما دامت تهدف إلى حروب قادمة قد تستغرق أجيالاً.
يُفهم أن تقتصر إدانة التغيير الديموغرافي في عفرين على التشكي الكردي مع أصوات قليلة وخافتة عربياً، فالماكينة العسكرية لحلفاء الأسد وقواته لا تتوقف عن استهداف المناطق الخارجة عن السيطرة، من الغوطة إلى مخيم اليرموك إلى ريف حمص الشمالي، وفي كل مرة تكون النتيجة عملية تهجير جديدة، بينما صارت عفرين في خلفية الأحداث، شأنها شأن العديد من المناطق الأخرى التي لاقت مصيراً بائساً. يُفهم أيضاً هذا التقصير في إطار اليأس العام، بسبب إفلات القضية السورية بكل تفرعاتها وتفاصيلها من أيدي السوريين. مع ذلك جريمة مضاعفة بحجم تهجير الأهالي وتحويل مهجّرين آخرين إلى مستوطنين ينبغي ألا تمر بصمت، إن لم يكن انحيازاً لأصحاب الأرض فليكن انحيازاً لكرامة من يستحقون مصيراً أفضل من أن يكونوا معتدين.