لماذا يُستدعى بشار إلى سوتشي؟
عمر قدور – المدن
كأنه بات من تقاليد السياسة الروسية في سوريا استدعاء بشار الأسد إلى سوتشي كلما كان هناك موقف روسي يُراد الإعلان عنه، فلا تصريحات تُنقل عن بشار سوى ذلك الثناء على الدور الروسي، وفوقها في كل مرة ما يشبه تعهداً بتنفيذ السياسة الروسية، وإن اقتصر التعهّد على الصمت في حضرة موقف سيد الكرملين. من حيث الشكل لا يحظى بشار بزيارة دولة إلى الكرملين، وفي كل مرة يُعلن عن زيارته بعد انتهائها، لا لأسباب أمنية بالتأكيد وإنما زيادة في تصغيره، ليبدو كأنه استُدعي إلى استراحة بوتين بينما يتناول الأخير قهوته مع ثلة من رجالاته.
إظهار التحكم الروسي التام ببشار رسالة تعلم مدى دقتها القوى الدولية والإقليمية المعنية، وهي لا تحتاج إشارات شكلية تتعلق ببروتوكولات استقباله وإنما تتطلب مواقف عملية واضحة، إذا لم تكن أجهزة استخبارات على معرفة بدقائق النفوذ الروسي. أما إظهار موافقة بشار على ما يعلنه بوتين في هذه اللقاءات فهي أيضاً متوقعة منه، سواء فعل ذلك راضياً أو مكرهاً أو على سبيل المراوغة وكسب الوقت، في حين أن المواقف الروسية التي تُعلن في هذه المناسبات هي أيضاً محل شك، إذ لم يندر أن تتراجع موسكو عن مواقفها، سواء على سبيل المراوغة أو بفعل صراعات النفوذ التي تتحرك ضمنها.
ما نُقل عن بوتين، أثناء لقائه الأخير ببشار، يشرح كيف أصبح الثاني بمثابة صندوق بريد، فالأول هو الذي أعلن ضرورة رحيل كافة القوات الأجنبية عن سوريا، باستثناء قواته طبعاً. اللافت في هذا التصريح أنه لا يترافق مع الإعلان عن انتهاء مرحلة من الحرب تنتفي فيها الحاجة إلى وجود القوات الحليفة، وأنه بشكل غير مباشر يعتبر وجود جميع القوات الأجنبية غير شرعي، باستثناء القواعد الروسية التي ترسّخَ وجودها بمعاهدات مع الأسد نفسه. لكن حتى المطالبة بانسحاب كافة القوات الأجنبية لا تستوجب بالضرورة استدعاء بشار، لولا أن أُريد لها أخذ طابع أكثر جدية والإيحاء بالتزام الطرفين به، فعندما يريد بوتين توجيه رسالة خاصة إلى طهران لن يكون بشار صندوق البريد بوجود قنوات أكثر أهمية بين الطرفين.
حدثان هما الأبرز كانا قد سبقا استدعاء بشار، لقاء نتنياهو-بوتين والضربة الإسرائيلية لمواقع إيرانية في سوريا إثر قصف صاروخي فاشل استهدف مواقع إسرائيلية. وحيث لا وجود لأحداث كبرى تتعلق بالملف السوري باستثناء هذين الحدثين يمكن النظر إليهما كخلفية لوجود بشار في سوتشي، فموسكو لم تكتفِ بتعليق تسليم الأسد أنظمة الدفاع الجوي S300، وإنما أرادت التأكيد على موقفها بحزم وبحضور بشار شخصياً، وهذا الموقف لا يخفي انحيازه إلى إسرائيل في مطالبتها برحيل القوات الإيرانية عن سوريا.
الرسالة هنا من إظهار بشار خاضعاً تماماً للنفوذ الروسي موجهة لتل أبيب، بعد الإنذارات المتكررة من الأخيرة بضرورة ابتعاده عن التأثير الإيراني، مع التأكيد على موافقته على خروج القوات الإيرانية وحزب الله من سوريا. بالطبع الحديث عن خروج كافة القوات الأجنبية، إذا كان يعني تلازماً بين خروجها، قد يقلل من أهمية هذا الالتزام إلا أنه يتضمن رسالة أخرى إلى تل أبيب مفادها الضغط على الإدارة الأمريكية بحيث تربط رحيل قواتها برحيل باقي القوات، ولا تربطها بنوعية التسوية في سوريا.
نتنياهو هو أكثر زعماء المنطقة التقاءً ببوتين منذ التدخل العسكري الروسي المباشر، وفي هذا دلالة على العلاقة والتنسيق بين الجانبين، ولعله في زيارته الأخيرة كان في موقع أقوى من أية زيارة سابقة. هذه المرة ذهب نتنياهو متسلحاً بانسحاب أمريكي من الاتفاق النووي الإيراني وقرار أمريكي بالتصدي للنفوذ الإيراني الإقليمي الذي بات مقلقاً، ما يعزز مطالبة إسرائيل المستمرة بتحييد طهران عن الساحتين السورية واللبنانية. قوة نتنياهو ليست على الضد من قوة بوتين، فالأخير أيضاً يبدو في أحسن حالاته مع الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، بما يعنيه ذلك من ضعف طهران إزاء موسكو واضطرارها إلى القبول بشروط لم تكن لتقبلها قبل عودة سريان العقوبات، بخاصة مع إدراكها أن العقوبات ستؤثر على علاقاتها بعموم الغرب وشركاته الكبرى رغم الاعتراضات الحالية لبعض القادة الأوروبيين على القرار الأمريكي.
صورة بشار في ضيافة بوتين هي في ظل الصورة التي جمعت نتنياهو ببوتين قبله، وبوتين يراها فرصة مناسبة جداً من أجل المضي في التسوية الروسية، إذا كان الثمن خروج إيران ومليشياتها من سوريا، وخاصة إذا كان هذا سيتحقق بجهد أمريكي وإسرائيلي. تل أبيب لا يبدو أنها تمانع في تسوية من هذا القبيل، فمشكلتها مع بشار تنحصر في تبعيته لإيران، وفي ما عدا ذلك ربما يكون رجلها المفضّل. إلا أنه سيكون من الشطط تصور تطبيق سريع وسلس للتسوية التي ترضي الجانبين، فملالي طهران رغم ما يتعرضون له من ضغوط لن يُسلّموا بها بسهولة، ولن يتوانوا عن التسبب بالمتاعب للحليف الروسي في سوريا نفسها، وتصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية أمس الاثنين يصب في هذا المنحى، إذ أشار إلى أن أحداً لا يستطيع إجبار إيران على الانسحاب من سوريا، مضيفاً أن بلاده لها سياستها المستقلة للتأكيد على توجيه الرسالة للحليف الروسي.
في كل الأحول، إذا سارت مواجهة النفوذ الإيراني قدماً، بضغط أمريكي وإسرائيلي وترحيب روسي باحتكار السيطرة على سوريا وحصد المنافع الاقتصادية للعقوبات الأمريكية على طهران، فلن يكون بشار سعيداً بهذه الخاتمة. الأمر لا يتعلق بغرامه بطهران، وإنما بخطورة الوقوع تحت السيطرة الروسية فقط، وافتقاده هامش المناورة الذي يتيحه وجود حليفين قويين. ثم إن الوقوع تحت سطوة حليف واحد يهدد أكثر بالتضحية به، بخاصة من قبل موسكو التي تطرح نفسها كعامل استقرار للمنطقة، وعينها مفتوحة على فوائد إعادة الإعمار والأموال التي يمكن الحصول عليها في صفقة لاحقة تكميلية.
يُستدعى بشار للقاء بوتين، كل مرة لإثبات أنه روسي قبل أي اعتبار آخر، بينما يعمل رجالات الحرس الثوري في دمشق على التقليل من أثر تلك اللقاءات، وقد لا تختلف الضغوط التي يتعرض لها شكلاً ومضموناً من الجانبين، باستثناء أن الإيرانيين غير مولعين باستخدام الكاميرات ويفضّلون عليها عادةً أساليب أكثر خفاءً وأقل رهافة.