ملامح حقبة رابعة من الصراع السوري
ماجد كيالي – جيرون
يبدو أن الصراع السوري دخل مرحلة جديدة قوامها تقاسم النفوذ، أسّست لها اتفاقات “خفض التصعيد” التي تمّ تدشينها في مسار “مفاوضات أستانا”، طوال العام 2017.
على ذلك؛ نحن إزاء سورية مقسمة من الناحية العملية، أو لجهة القوى المسيطرة. فثمة مناطق يسيطر عليها النظام وحليفاه: روسيا وإيران، والأصح بفضلهما، وهي تشكّل أزيد بقليل من مساحة نصف سورية، أو ما اصطلح عليه بـ “سورية المفيدة”، التي تشمل مدن الوسط والغرب السوريين، من درعا (بعض المدينة) إلى حلب، مرورًا بدمشق وحمص وحماة، إضافة إلى اللاذقية وطرطوس؛ هذا من جهة. ومن الجهة الثانية، ثمة الأراضي التي ظلت خارجة عن سيطرة النظام، وهذه تشكل نصف سورية تقريبًا، حيث تسيطر تركيا على الشمال السوري، من غرب الفرات إلى الحدود، أي من جرابلس إلى عفرين مرورًا بإعزاز وإدلب. ومن الجهة الثالثة لدينا الولايات المتحدة (مع قوات “قسد”) التي تسيطر على منطقة شرق الفرات، إلى الحدود مع العراق، وهي المنطقة التي تحتوي أهم ثروات سورية من النفط والغاز والقمح. وأخيرًا من الجهة الرابعة هناك سيطرة الولايات المتحدة على منطقة الجنوب، حيث محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، نتيجة تفاهمات عقدتها مع روسيا إلى جانب الأردن، علمًا أن “إسرائيل” مقررة في هذا الاتفاق، بطريقة مضمنة، وعبر الأطراف الثلاثة (أميركا وروسيا والأردن)، مع ملاحظتنا أن “إسرائيل” أضحت طرفًا فاعلًا ومعلنًا في الصراع السوري، إن بحرصها على اتفاقية خفض التصعيد في الجنوب، ومنع اقتراب قوات إيرانية أو تابعة لإيران، قرب حدودها لعمق 25 كم، أو بحكم تشغيل ذراعها الطويلة في قصف مواقع النظام وقوافل التسلح وقواعد إيرانية أو ميليشيات إيرانية على الأرض السورية.
بناء على ذلك؛ يمكن القول إننا في هذه المرحلة إزاء حقبة رابعة في الصراع السوري، الحقبة الأولى تمثلت بالثورة السورية، وكان عنوانها الصراع بين النظام وأغلبية السوريين، وقد امتدت طوال العام الأول للثورة. والثانية نشأت مع التحول نحو الصراع المسلح كردة فعل على تغول النظام، وكاستجابة للتشجيعات الخارجية، وتوضّحت أكثر مع دخول بعض فصائل المعارضة المسلحة إلى حلب (تموز/ يوليو 2012)، واتسمت بصعود الفصائل الإسلامية وهيمنتها على مشهد الصراع السوري، واحتلالها الصدارة فيه، وفي تلك المرحلة، صعدت (داعش) و”جبهة النصرة”، كنوع من ثورة مضادة، وكجهة تركزت قواها على إزاحة “الجيش الحر”، والهيمنة على السوريين في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام. الحقبة الثالثة، يمكن التأريخ لها مع دخول روسيا كطرف مباشر في الصراع ضد السوريين (أيلول/ سبتمبر 2015)، ومنذ ذلك الوقت، تراجعت فصائل المعارضة العسكرية الإسلامية، وانحسر دورها وضعفت قدراتها وخسرت مكانتها، وخرجت من معظم المناطق التي كانت تسيطر عليها، واللافت أن كل ذلك جرى في زمن التوافق الثلاثي: (التركي، الروسي، الإيراني)، وهي الحقبة ذاتها التي شهدت تحجيم نفوذ (داعش) ونفوذ “جبهة النصرة”، باستثناء منطقة إدلب، وبعض الجيوب في الجنوب السوري.
ما تقدم يضعنا إزاء حقبة رابعة نشهد فصولها في هذه المرحلة، حيث تراجع الصراع الداخلي، بين النظام والمعارضة، لصالح القوى الخارجية، التي بات من المؤكد أنها هي من يتحكم في وتائر هذا الصراع منذ زمن.
في ظل هذا الوضع، يمكن التمييز بين ثلاثة أجندات في المرحلة الصراعية القادمة: الأولى الأجندة السورية التي تلح على استعادة الاستقرار، على أساس وقف كل أعمال القتال والتشريد والتدمير، وتحقيق نقلة سياسية، أو مرحلة انتقالية، تؤسس لسورية جديدة، بيد أن ذلك لا علاقة له بالأحلام التي داعبت معظم السوريين في بدايات ثورتهم، التي تتعلق بالحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، مع الأسف. والثانية تتعلق بتحجيم نفوذ إيران، بدءًا من إقفال “الكوريدور” بين إيران ولبنان مرورًا بسورية، وصولًا إلى تحجيم نفوذ إيران في المشرق العربي، وربما إخراجها وميليشياتها كقوة عسكرية من سورية. أما الأجندة الثالثة فتتعلق بكيفية ترسيم التوافقات بين مناطق النفوذ الأربعة التي تحدثنا عنها، وهذا يرتبط بتموضعات كل من الدول المعنية: (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا)، وأجنداتها الخاصة مستقبلًا، كما بمآلات التوافق على مستقبل الدولة والنظام السوريين.
هذا هو الواقع، بغض النظر عن الرغبات والتمنيات المشروعة، أولًا، لأن القوى الخارجية التي أضحت تتحكم في مآلات الصراع السوري، وفي مستقبل سورية والسوريين، وضمنها دول ما يسمى “أصدقاء سورية”، لا يهمها شكل الحكم، ولا نوعيته، ولا يهمها مصلحة السوريين، بل إنها هي التي أسهمت في وصول الوضع إلى هذا الدرك، وضمن ذلك تلاعبها بالثورة وبالمعارضة. وثانيًا، لأن المعارضة السورية، بكياناتها السياسية والعسكرية، ضعيفة وممزقة ومرتهنة وغير ناضجة أو غير مؤهلة، ولا إجماعات سياسية بينها. وثالثًا، لأن السوريين كشعب، منذ سنوات، باتوا خارج المعادلات الصراعية، إن بوجود حوالي نصفهم خارج البلد، أو بسبب معاناة معظمهم من الأهوال التي شهدوها خلال السنوات الماضية، مع عجز المعارضة عن تقديم نفسها، ككيان بديل ومقنع، أو عجزها عن خلق إجماعات وطنية يتفق عليها معظم السوريين.
في الغضون، ثمة السؤال القديم الجديد: أين المعارضة من كل ذلك؟ وإلى متى سيظل السوريون يفتقرون إلى كيان سياسي جامع يمثلهم ويعبّر عنهم؟