إسقاط النظام والمعارضة من الحل في سورية
سميرة المسالمة – الحياة
استطاعت روسيا أن تنجز عملية تفكيك ناجحة للنظام السوري في شكله التقليدي وصلاحياته المفتوحة، كما أدت الدور نفسه مع أطياف المعارضة بشقّيها السياسي والعسكري، مع فارق كبير بين دورها التفكيكي للطرفين، حيث اختلف الهدف من العملية داخل بنية النظام عنها لدى المعارضة. فبالنسبة الى النظام، كانت الأولوية لديها ليس حمايته أو تحصينه من الانهيار، وإنما الإبقاء على شرعيته المعترف بها أممياً، مع ضمانة تقدّمها المجتمع الدولي بإعادة صياغته وفق جدولة جديدة، وعلى مساحة تحددها هي داخل الحدود السورية وخارجها، والتي تسعى موسكو الى جعلها حدوداً مرنة، قابلة للانضغاط نحو الداخل وفق ما يخدم تفاهماتها الدولية، وضمن ما يسمى دستور سورية الجديد، الذي تؤسس لشرعنته من خلال احتضان الأمم المتحدة لمحادثات في شأنه تحت غطاء القرار 2254 وضمن سياق ما يسمى مسار جنيف.
في حين أن المسعى الروسي لاحتواء المعارضة جرى لأهداف مغايرة تماماً لما فعلته عند تفكيك بنية النظام، التي حافظت على ضمان بقاء شرعيته كطرف مفاوض للمجتمع الدولي، وليس للمعارضة، التي أصبحت مجرد أسماء لكيانات مفتعلة دولياً، من المجلس الوطني إلى الائتلاف، ثم هيئة التفاوض، وبعدها وفود تفاوض مساري آستانا وسوتشي، ونهاية وفد التفاوض.
وعلى رغم سحب عوامل القوة من النظام كحاكم للبلاد، إلا أنها ساهمت في وحدانية تمثيله للدولة السورية في الهيئات الدولية الأممية، في الوقت نفسه الذي يتصدر أجندة موسكو ملف إنهاء الاعتراف الدولي بالمعارضة ككيانات وفصائل، وتحويلها إلى «أفراد» غير صالحين لإعادة التدوير، خلال مراحل الحل «المفترض» المتقدمة، وذلك لخسارتهم مرجعياتهم الكيانية من جهة، وعدم قبول الطرف المقابل بهم من جهة ثانية، ما يفسّر استبدال الأسماء والصفات مع كل مرحلة من مراحل الصراع في سورية، والتبعية المطلقة للشخصيات المنتدبة لتمثيل الوفود للدول التي رشحتها لهذه المهمات.
سعت روسيا خلال حراكها الديبلوماسي، خارج صندوق النظام والمعارضة، إلى مد جسور التفاهمات العابرة لخلافاتها البينية مع كل من الدول المؤثرة في القرار الدولي، وجاء ذلك تزامناً مع تحركها العسكري داخل الأراضي السورية، وبسط سيطرتها المباشرة عليها، مع التزامها في الوقت نفسه الصمت تجاه الضربات الإسرائيلية على شريكتها الاستراتيجية إيران في مساري آستانا وسوتشي، وحيادها غير الإيجابي حول حصار تركيا غربياً وأميركياً، وتضييق مساحة تحركها داخل الملف السوري من خلال سحب ملف الكرد منها، وإبعاد خطرها عنه بمد جسور التواصل لهم مع النظام مباشرة، وأخيراً إحباط محاولاتها في سوتشي 30 – 31 تموز (يوليو) المنصرم بتمديد اتفاق خفض التصعيد في إدلب، وترك المجال مفتوحاً أمام خيارات الحل العسكري الذي يلوح به النظام السوري.
ومن الملاحظ أن النظام السوري لا يتجاهل حقيقة أدوار روسيا داخلياً وخارجياً، بل يتعامل معها من مبدأ «قوة الوقت الراهن»، ومن تصوراته المخابراتية في القدرة على التلاعب قدر المستطاع على التناقضات الدولية مع روسيا، وعلى احتمالات تضارب المصالح مع الجانب الإيراني داخل سورية، وفي دول نفوذها، أي في كل من العراق ولبنان واليمن، وحتى في العلاقة بين إيران كنظام حكم، وبين الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى حليفة لإسرائيل، وفي تنافس على المكانة والدور الإقليمي معها لحماية الحدود الإسرائيلية، وتمرير مشروع الغاز في المنطقة، ما يعني أنه على رغم تسلــيمه بأنها صاحبة اليد العليا في التفاهمات الدولية حول سورية، إلا أنه لم يفقد الأمل في السعي لإيجاد مساحة يتنفس من خلالها كقوة حاكمة، مع ضآلة الفرص الممكنة في ظل وجود قوتي احتلال (روسيا وإيران)، تتنافسان جدياً على النفوذ السياسي والأمني والاقتصادي وحتى المجتمعي، ومن هنا تبرز المشكلات التي يصنعها وفد النظام خلال المحادثات سواء في آستانا أو جنيف أو سوتشي لغاية اللعب على الوقت حيناً والتحايل على الاستحقاقات في أحايين ثانية.
وما لا يمكن إخفاؤه، أن روسيا أدركت واقع المعارضة الممزقة واستطالاتها الدولية، وأجنداتها المغلقة التي لا تتقاطع في ما بينها، بل تتنافس، وتتناحر، وتصل إلى مراحل إعلان الحرب في ما بين فصائلها، وتمكنت من خلال ذلك العمل عليها وفق مرحلتين:
أولاهما، عقد تفاهمات مع الدول الراعية لكيانات المعارضة بضمان مصالحهم بعيداً من أذرعهم المحلية من معارضات سياسية ومسلّحة، وهذا ما تمثل بحراك ديبلوماسي روسي من وإلى هذه الدول عربياً وتركياً وإيرانياً وغربياً وأخيراً أميركياً.
ثانيتهما، استثمار خلافات المعارضات، بخاصة المسلحة منها، والاستفادة من مطامعها السلطوية، لتحفيزها على مصالحات منفردة، تضمن لها الحفاظ على ميزات فرضتها على مناطق نفوذها بقوة السلاح أو الخروج الآمن إلى مناطق أخرى مع كل مكتسباتها المالية، وهذا لغاية كشفها على المســـتوى الشعبي الذي تتاجر به، وقد عبر الشارع عن ردة فعله تجاهها في شكل مباشر وصريح، وعلى مستوى الدول الداعمة لها، لإنهاء روابط الصلة في شكل يسمح لها بتمرير مشروع إذابتها من الساحة السورية، وهذا ما حدث في مناطق خفض التصعيد تباعاً، وما ينتظر فصائل المنطقة الأخيرة إدلب، وفق مشروع روسي – تركي مشترك، ويصب نهاية في مصلحة استعادتها إلى النفوذ الشكلي للنظام السوري.
وعلى رغم كل ما تقدم، ما زالت وفود «المعارضة» تدير معاركها التفاوضية بالأمنيات، وبالتعاطي مع أوهام الدعم الدولي لحق الشعب السوري في صناعة مستقبله، على رغم أنهم ساهموا – عبر سنوات نزاعهم البيني إلى جانب نزاعهم مع النظام على السلطة – في التنازل عن هذا الحق، عبر انسياقهم وراء المشروع الروسي الذي استطاع التلاعب في الحقوق المكتسبة للسوريين في القرارات الأممية والبيانات الدولية من بيان جنيف1 وحتى القرار 2401.
وأيضاً فقد تمكنت روسيا من قلب الطاولة على محادثات جنيف بتلفيق مساري آستانا وسوتشي، وخلط أوراق التفاوض ليتقدم بند صياغة الدستور الجديد، على أهم مكتسب للثورة، وهو الاعتراف بوجوب قيام مرحلة انتقالية تهيئ المناخات الآمنة لمؤتمر وطني، ينتخب لجنة دستورية يبدأ من خلالها تأسيس الجمهورية السورية الثالثة، الأمر الذي بات مستبعداً الآن بعد إقرار تشكيل لجنة دستورية تمثل مصالح الدول الشريكة لموسكو في اغتيال الثورة السورية، وما كان ذلك ليمر لولا قبول أطياف المعارضة بممارسة دور شاهد الزور في تمثيلها لثورة السوريين، وارتهاناتها لأدوار وظيفية مرحلية، مكنت موسكو من إنجاح مشروعها في إعادة تدوير استخدامات النظام السوري دولياً من جديد.
*