لا تموت الثورات
زوال الأنظمة الشمولية بكل أوبئتها، جدلية حتمية. ولن يستثنى منها شرقنا، فالأطراف المتقاتلة، والصراعات المدمرة، بين التكفيريين والمنظمات الإرهابية وبين السلطات الشمولية، لا تمثل ثورات الشرق، بل تندرج ضمن جدلية القضاء على البعض، فضمورهما هي الثورة بذاتها. ستتلاشى مثلما طمرت أمثالها في أوروبا قبل قرون، ما بين الزوال والانحسار بين جدران الكنيسة. وكل طفرة بشرية لها أثمانها، والثمن في شرقنا يدفع غاليا، مثلما دفعها شعوب عديدة على مر التاريخ، وللأسف، وخيمة نتائجها، ورهيبة مخلفاتها، وستكون مديدة ومتداخلة بقدر تراكم الفساد والأوبئة.
فالثورات لم تُحصد نتائجها، وعلى مر التاريخ، إلا بعد عقود، بل قرون من الزمن، وتبينت من ثمارها زوال قادتها وما حولهم من الشرائح الانتهازية والمارقة. وظهور أجيال متتابعة من المثقفين والرواد النيرين أكد مصداقية الثورات تلك. حتى الأديان لم تبلغ مراميها بين الأمم إلا بعد صراعات طويلة، وقرون من الزمن، وأحيانا لا يجني نتائجها قادتها الأولون، وما تلمسوه من نجاحات كانت على أنقاض دمار رهيب، وجحيم من معاناة الشعوب. وصدفت أن عبثت ببداياتها شرائح من الانتهازيين والمنافقين وسخروها لمصالحهم.
كثيرون من قادة الانقلابات العسكرية اكتسوا بلباس الثورة، كما وزعماء أحزاب شمولية ادعوا بالثورية، كلاهما تلاعبا بمصطلح الثورة، ومفاهيمها، وتغطوا بأغطيتها، لإضفاء هالة حول ذاتهم أو أحزابهم. وفي شرقنا ظهر العديد منهم، كمعمر القذافي أحد قادة الانقلاب العسكري في ليبيا أطلق صفة الثورة على انقلابه، وقبله حزب البعث السوري، وفيما بعد ابن الحزب الطيار حافظ الأسد. وسخر حزب البعث جيشا، بعد انقلابه العسكري، من الإعلاميين والمثقفين نعت هذا الانقلاب بين المجتمع بالثورة واغتصاب السلطة بأنه من الشعب، وكذلك جعفر النميري فعلها وصدام حسين وبعثييه، وجمال عبد الناصر وناصريته وغيرهم، هؤلاء وأمثالهم عاثوا فسادا على فساد، وأجّجوا الصراعات المذهبية بغطاء الثقافات الثورية، وجروا دولهم والشعب إلى حروب كانت ويلات على البلاد والشعب على حد سواء. كما أغرقوا المجتمع في أوبئة تحتاج إلى عقود طويلة للشفاء منها.
الثورات هي التي غيرت المجتمعات، وارتقت بها إلى الأفضل، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وخلقت ثقافة نوعية تلاءمت والتطور الحضاري، مثل ظهور المسيحية في بداياتها، قبل أن تسقط في حمى السياسة، ومهدت لسيطرة الطغاة على الشعوب تحت عباءة الدين المسالم، وبهذه المسيحية السياسية تحولت الكنيسة بفاتيكانيها إلى دكتاتورية مطلقة، فأغرقوا العالم المسيحي في الظلمات، إلى أن ظهرت الثورات الأوروبية، والتي كانت بمجملها ثورة واحدة استهدفت الخلاص من ربقة اللاهوت السياسي، واستمرت على مدى قرنين من الزمن قبل أن تبلغ أهدافها. والحضارة الأوربية المبهرة، التي يسعى المسلمون إلى العيش في ظلالها قبل الآخرين، هي من نتائج تلك الثورات. كان انتهازيو تلك الفترة وتجار الحروب ومنافقيها يتهمون الثورات الأوربية بكل الشرور، وألقوا لوم الدمار الذي ألحق بأوروبا عليها.
مثلها كان الإسلام في بداياته، ثورة، نقل شعبا من العصبية القبلية؛ ووأد البنات؛ ومجتمعات البداوة؛ وقوانينها الفجة إلى أمة واحدة، ذات مفاهيم وقيم عصرية، بمقاييس ذلك الزمن. أنكر الحضارات الموجودة حينها في الأطراف كالحضارة البيزنطية والفارسية، واستعاض عنها بالثقافة الإسلامية التي نمت فيما بعد، وارتقت إلى أن بلغت القمة بعد أن خمد تفاقم الصراع على السلطة وهدأ. ورسخت ثقافة الإسلام السياسي تعامل العنف مع معارضيها، وهكذا أفرغت الروحانية من نصوصها، وهي مراحل لا تختلف عما مرت بها المسيحية، حيث طغت شرائع أئمة المذاهب والتكفيريين، على النصوص الروحية.
ما يظهر اليوم في شرقنا هي بدايات الثورة الكلية على الأنظمة الشمولية العلمانية والدينية معاً، فهما يكملان بعضهما البعض في استخدام العنف. فالثورات الجارية هي رد فعل على تراكم مفاهيم، الإسلام السياسي والنظام الشمولي، بين المجتمع. جاءت هذه الثورات للقضاء على الطرفين، فالإسلام السياسي يحمل بين جنباته الطغي؛ وكذلك السلطات الشمولية، ومعهما الطغاة، وينسجمون مع بعضهم البعض. وإدامتهم تكون أكيدة وآمنة بانسجام هذا النقيض المساند أحدهما للآخر والجامدين بالمطلق.
الانتباه إلى ضخامة حجم الموروث من ثقافة الإسلام السياسي على مدى قرون في شرقنا، وكذلك ما خلقته الأنظمة الشمولية، تؤكد على أن العيش في ظل هذين النظامين شاق ومضنٍ، وجحيم وراء جحيم ينتظر شعوب الشرق. وهي بحاجة إلى نضال أجيال من المنورين، لبلوغ الغاية، ولن تتحقق نتائجها في غضون بضع سنوات قادمة. فقط، قصارى النظر، وضيقوا الأفق هم من يتوقعون نتائج آنية منها. ونتائجها ستأتي بعد أن تزيل الثورة الركام عن المدن المطمورة، وإعادة الملايين المهجرة.
إنها مسيرة عقود من الزمن، فالأمراض التي تنخر المجتمعات عديدة؛ وإزالة ثقافة فاسدة؛ وزرع أخرى نقية تحتاج إلى جدلية صراع طويل ونمو مغاير، والأمثلة في التاريخ عديدة، واقربها المثال المذكور آنفاً عن المسيحية السياسية وملوكها وأباطرتها الطغاة، والتي أدت إلى معاناة وجحيم لا تقل عن الجاري في شرقنا. رغم أن الأسلحة حينها كانت أقل تدميرا من الحاضر. وليس صحيح من يدعي أنه على كل الثورات أن يقف في مقدمتها على الأرض قادة ومفكرون ليرشدوا الثائرين، على الأقل، هؤلاء غائبون في ثورات الشرق في الربيع العربي؛ ولكنهم متواجدون في المقدمة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي كالبالتوكات والفيس بوك والسكايب وغيرها. ودشنت ثورة تونس عهدا جديدا في قيادة الثورات، حين استخدمت تكنولوجيا العصر الحالي دافعة بمئات الآلاف من المناهضين إلى الشوارع وأجبرت الدكتاتور على الفرار، حذت حذوها مصر وليبيا واليمن وسوريا والحبل على الجرار. كما يتناسى ذوو الحجج أن مئتي سنة من ثورات أوروبا، بتراثها وتجاربها ومفكريها وروادها، صارت في متناول أي فرد ملم بتكنولوجيا العصر، ولم تعد محصورة في كتب بوسع السلطات الدكتاتورية منعها من دخول أراضيهم، هكذا يغضون الطرف عن الوسائل والأدوات الجبارة لهذا العصر التكنولوجي. وحضورهم أحياء وتأثيراتهم المباشرة هي من الماضي البعيد؛ ولكن عمليا يمدون الثورات مهما بعدت المسافات ومرت العصور والقرون؛ وذلك بفضل إنجازات العلم في مضمار تكنولوجيا الاتصالات. لقد قلصت تقنية العصر عامل الزمن والمسافة إلى ساعات ودقائق وثواني.
الثورات ستستمر لعقود قادمة، وستؤدي إلى حصر الإسلام بين جدران المساجد، وستضع نهاية لشمولية السلطات وستهدمها بقوانين حضارية. الثورات لا تتجزأ، كما يجزئها البعض. فيسمي هذه ثورة اجتماعية، وذاك ثورة ثقافية وأخرى ضد الأنظمة الشمولية، وما شابه. الثورة هي التي تغير كلية المجتمع وعلاقاته وثقافته وبنيته، وينتقل بالإنسان من واقع المعاناة إلى مقدمة الحضارة، وإلا فهي طفرات جزئية لا ترقى أن تسمى بالثورة.
لا شك في الشرق ثورات، والشعوب الثائرة ستبلغ أهدافها محققة الحرية في كل أبعادها ومؤدية إلى تغيير نوعي في كل المجالات. ولا نستبعد أن تكون هناك حضارة تنتظر الشرق، على أنقاض المدن المدمرة، ومشقة المعاناة الجارية، وسقوط الأنظمة العنصرية الشمولية وانهيار الإسلام السياسي. انتظرت أوروبا قرنين من الزمن، لكن هنا وفي عصر ثورة الأنترنيت العادمة للزمن والمسافات، سوف تُختزل مراحل بلوغ الأهداف. وكل من يعتقد أن الثورات ماتت أو فشلت كما في سوريا، هم على خطأ، والمؤمنون بالثورة يؤكدون على نجاحها في بعض الأماكن، كتونس مثلا، وإخفاقها في بعضها الآخر. فالثورات لا تموت بل تؤدي مهامها. وثورة الشرق ولدت وهي في أطوارها الأولى.
د. محمود عباس