روسيا وتركيا.. وعقدة إدلب
اياد الجعفري – المدن
هل تبيع تركيا إدلب؟، وبأي ثمن؟.. بهذين السؤالين، ينشغل معظم المراقبين للشأن السوري، إلى جانب الحاضنة الشعبية للثورة المكتظة حالياً في إدلب. وبقدر ما تبدو الإجابة على هذين السؤالين معقّدة، بقدر ما تتفاوت القراءات بصورة كبيرة، فتكثر الشائعات، وتنشط الحرب النفسية للنظام وحلفائه.
تحيل محاولة الإجابة على السؤالين السابقين، إلى جملة أسئلة أخرى، قد يكون أبرزها، ما موقع إدلب في مجمل المصالح التركية في سوريا؟.. الجواب في نقاط عديدة، الأولى تتعلق بملف اللاجئين، فتعرض إدلب لحملة عسكرية كبرى، تؤدي إلى موجة نزوح ضخمة إلى أراضيها، خط أحمر لتركيا، دون شك. النقطة الثانية، تظهر في استثمارات تركيا المتراكمة في حلفائها السوريين داخل إدلب، الذين يشكلون إحدى أدواتها الرئيسية للمشاركة في نظام الحكم في سوريا، مستقبلاً، حالما يتم الوصول إلى تسوية سياسية مستقرة. النقطة الثالثة، تتعلق بالجزء الخفي من العلاقة بين تركيا وبين فصائل جهادية تُضنف دولياً على أنها متطرفة، وفي مقدمتها “هيئة تحرير الشام”.فالتنسيق الهادئ، بين الأتراك و”تحرير الشام” في نصب مراكز المراقبة التركية داخل إدلب، في الأشهر الأخيرة، إلى جانب القدرة على امتصاص احتمالات الصدام، بين الطرفين، حتى الآن، توحي بوجود علاقة عميقة بين الطرفين. وهي تحديداً، العلاقة التي تحاول روسيا التصويب عليها، لأنها ورقة تركية مركونة للظروف الاستثنائية. فتركيا، تراهن على “هيئة تحرير الشام”، وفصائل جهادية أخرى، لتكون رأس حربة متقدم ضد مناطق سيطرة النظام وإيران وروسيا. ويُعتقد أن الهجمات بطائرات الدرون، مجهولة المصدر، على قاعدة حميميم الروسية، أكثر من مرة، تتم من جانب تلك الفصائل الجهادية، وربما، بغض طرف تركي، لتوجيه رسالة للروس، بأن تركيا قادرة على إيذاء مصالحهم، بصورة خشنة، إن لم يتيسّر التفاهم بالطرق الدبلوماسية. وبهذا الصدد، يظهر جانب جيواستراتيجي مهم، لموقع إدلب، قريباً من الحاضنة الشعبية للنظام في الساحل، ومن مناطق التمركز العسكري الروسي، هناك.
يحيلنا ما سبق إلى تساؤل آخر، ما هي الأدوات التي يمكن لتركيا أن تحقق بواسطتها، مصالحها في إدلب؟.. الجواب يتضح من خلال استعراض مجمل سياسة تركيا خلال الأزمة السورية، في السنوات السبع الماضية. حيث تتضح محدودية القوة الناعمة، وكذلك محدودية القوة الصلبة (الخشنة)، لتركيا، بمعزل عن التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو روسيا. فتركيا عاجزة عن تحقيق أهدافها من التدخل في سوريا، بمعزل عن علاقاتها مع القوى الفاعلة في الملف السوري، وفي مقدمتها روسيا، والولايات المتحدة الأمريكية.
وهذا يحيلنا لسؤال معاكس: هل تستطيع روسيا تحديداً أن تستغني عن الحاجة لتركيا في الملف السوري؟.. من المستبعد ذلك، رغم أن ثمة من يحذر من استدارة روسية مفاجئة ضد تركيا، خاصة إذا تفاهم الروس مع الأمريكيين. لكن مع حالة التعددية القطبية العالية، الواضحة في تورط القوى الفاعلة بسوريا، تصبح أي دولة عاجزة عن تحقيق نصر صفري في سوريا بمعزل عن التفاهم مع القوى الأخرى. وينطبق ذلك على الروس أنفسهم. فروسيا بحاجة لتركيا، بوصفها المهندس الرئيس لأداء الجزء الفاعل من قوى المعارضة السورية، في الوقت الراهن. وكي تتمكن موسكو من تحقيق اختراق نوعي على المستوى السياسي للأزمة السورية، يسمح لها بتحقيق استقرار طويل الأمد، وغير مكلف، لنفوذها على الساحة السورية، لا بد لها من التعاون مع تركيا.
ومع العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران، تزداد حاجة إيران، هي الأخرى، لعلاقة فاعلة مع تركيا. كذلك تحتاج فرنسا وألمانيا، لعلاقة نوعية مع تركيا، في سوريا، نظراً لدور الأخيرة الحاسم على صعيد ملف اللاجئين وانتقالهم إلى أوروبا، أو بالعكس. لذا فتركيا، رغم محدودية قوتها الناعمة والصلبة بمعزل عن علاقتها مع القوى الأخرى، في سوريا، تمتلك أوراق قوة تحتاج روسيا وإيران والدول الأوروبية الفاعلة، وبدرجات أقل، الولايات المتحدة الأمريكية، للتفاعل معها.
يقودنا ما سبق إلى خلاصة، مفادها أن روسيا لا تستطيع القيام بنشاط يهدد المصالح التركية بصورة نوعية، في إدلب. وأكثر ما قد يهدد مصالح تركيا هناك، أمران، موجة نزوح جديدة ضخمة، والقضاء على حلفاء تركيا السوريين. لذلك، لا يبدو أن التركيز الروسي على إدلب، حالياً، يتم بهدف استعادة السيطرة عليها، بالكامل، لصالح النظام في دمشق، حتى لو كانت تلك إرادة النظام. الأرجح أن ما تريده روسيا في إدلب، هو انتزاع جانب من القوة الخشنة التي تملكها تركيا هناك، والقادرة من خلالها على تهديد النفوذ الروسي. ونقصد تحديداً، هيئة تحرير الشام، والفصائل الجهادية القريبة منها، التي تشكل أكبر الفصائل المسلحة المتماسكة، وأكثرها فاعلية في أي مواجهة عسكرية.
انتزاع هذه الورقة الخشنة، من قبضة تركيا، يحيل دون شك إلى مخاوف بتقلص قدرة تركيا على المناورة في الداخل السوري. ومع عدم الطمأنينة حيال استقرار المواقف الروسية تجاه تركيا، في ظل سعي موسكو الحثيث للتفاهم مع واشنطن، يصبح التخلي التركي عن العلاقة مع “تحرير الشام”، أمراً غير مريح للأتراك، من دون شك. لكن في المقابل، قد يكون ذلك أهون الشرور على الأتراك، إذا حصلوا على ضمانات كافية، لحفظ مصالحهم الأخرى في الداخل السوري، وعدم تشكيل أي تهديد على أمنهم الداخلي، سواء من خلال ملف اللاجئين، أو من خلال حفظ دور لحلفائهم السوريين، في التركيبة النهائية للحكم في سوريا.
وهكذا، يبدو أن التفاوض الروسي– التركي، الدائر حالياً، في ملف إدلب، يتعلق تحديداً بمصير هيئة “تحرير الشام”، والفصائل القريبة منها، وليس بمصير إدلب في مجملها. وبذلك، تصبح سيناريوهات من قبيل قضم أجزاء من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في إدلب وأرياف حلب وحماة واللاذقية، لصالح التحالف الروسي – الإيراني – الأسدي، بضوء أخضر تركي، أرجح، من سيناريو شن حملة شاملة للسيطرة على كامل إدلب. وبالتالي، فإن أي حملة عسكرية قادمة، سيكون، من الأرجح، غايتها القضاء على “تحرير الشام”، أو تحجيمها بصورة نوعية، وليس السيطرة على كامل إدلب. وعلى هذا يتم التفاوض حالياً، بين الأتراك والروس.