إدلب والحسابات الاستراتيجية الدولية
ناصر زيدان – الخليج
تبدو محافظة إدلب السورية على خط توتر سياسي وأمني وإنساني ساخن. كُل المؤشرات تدلُّ على أنها يمكن أن تكون مدخلاً لتسوية شاملة في المنطقة، أو ربما تكون مدخلاً لنزاعات دامية، قد تتطور إلى حروب واسعة.
منذ بدأت روسيا بتسوية خلافاتها مع تركيا و«إسرائيل»، وبتجميع قدرات القوى الإقليمية حولها في بداية العام 2017، تغيَّرت الأوضاع في سوريا رأساً على عقب. وكان لتسوية الخلافات التركية – الروسية (بعد أن كادت الحرب أن تقع بينهما في نهاية العام 2015) تأثيرات دراماتيكية، دفعت ثمنها المعارضة في سوريا، المعتدلة والمتطرفة معاً، واستفاد من هذه المستجدات النظام؛ بحيث كانت السياسة الروسية تعتمد على ضرب مناطق تواجد الجماعات المسلحة، ومن ثُمَ التفاوض مع بعضها؛ لنقل مقاتليها بالباصات إلى إدلب؛ حيث المناطق التي لا تخضع لسيطرة النظام. حانت ساعة الحقيقة، وتحوَّلت محافظة إدلب المُلاصقة للحدود التركية إلى ملجأ لكل القوى المعارضة والإرهابية، التي تضم آلاف العناصر الأجنبية.
من الواضح أن معركة إدلب بدأت. وفي هذه المعركة عوامل متداخلة، كما فيها حسابات تختلف عما سبقها من معارك في محافظات الرقة ودير الزور في الشرق، وفي درعا والقنيطرة في الجنوب السوري؛ لأن إدلب هي نهاية المطاف في مسلسل المعارك العسكرية الكبرى في سوريا، وعلى ضوء نتائجها يتقرر مصير الوضع في سوريا برمتها، كما تتحدَّد وفق هذه النتائج خريطة التأثيرات الإقليمية والدولية على الساحة السورية.
حسابات الحسم العسكري من جانب النظام في سوريا قائمة على قدمٍ وساق، وهو يحاول استجماع كل عناصر القوة البشرية واللوجستية؛ لخوضها؛ لكن الجانب الروسي، الذي يشارك في الغارات الجوية ضد مواقع المعارضة في إدلب؛ لديه حسابات استراتيجية مختلفة عن حسابات النظام السوري. وقد بدا ذلك واضحاً من خلال التردُّد في حسم الخيارات.
أهم عامل من عوامل التردُّد الروسي؛ هو الموضوع التركي، وتركيا بدأت بتجميع بعض القوات المُؤالية بالقرب من معبر باب الهوى مع سوريا. وكانت تلك الإشارة كافية؛ لإعادة خلط الأوراق، على اعتبار أنها تدل على اعتراض تركي على أن تسير الأوضاع العسكرية في إدلب، دون التنسيق معها، خصوصاً أنها ترتبط بعلاقات مع المجموعات المسلحة؛ ومن بينها «جبهة النصرة»، وهي تستخدمهم؛ لتحقيق أهدافها وأطماعها في سوريا.
بطبيعة الحال، فإن روسيا إذا اجتاحت إدلب؛ تكون قد أنهت آخر موقع عسكري للمعارضة المسلحة، وتكون أيضاً قد بسطت نفوذها الأمني على كامل الأراضي السورية؛ لكن مصالح روسيا مع تركيا قد تتجاوز مصالحها في كل سوريا.
فما هي أهم هذه المصالح الروسية الاستراتيجية، التي قد تراعيها موسكو في سياق حساباتها الميدانية في إدلب؟
– أولاً: في علاقة التعاون السياسي والعسكري مع تركيا منذ بداية العام 2017؛ أحدثت موسكو خرقاً استراتيجياً ليس لمصلحة خصومها في الغرب؛ بحيث استمالت دولة أساسية في حلف شمالي الأطلسي، وحققت تعاوناً سياسياً إقليمياً معها ثم انضمت إليه طهران. وفي هذا التعاون ضرر واضح لمنافسي روسيا في الأطلسي، خصوصاً أن التغيير الذي حصل في الموقف التركي وصل إلى حد تنسيق بعض المواقف العسكرية مع روسيا، ومنها عقد صفقة شراء منظومة صواريخ«اس 400» الروسية المتطورة، والمتخصصة؛ لمواجهة الطائرات العسكرية الحديثة والصواريخ الباليستية، مع العلم أن تركيا هي عضو في حلف الأطلسي.
– ثانياً: في العلاقات التجارية بين روسيا وتركيا مجالات تعاون كبيرة، تتجاوز كل ما يمكن أن تستفيد منه روسيا من سوريا؛ بحيث يُخطط البلدان؛ لكي يصل التبادل التجاري بينهما إلى حدود ال 100 مليار دولار في السنة، وهذا ما لا يمكن أن يصل بأي وقت من الأوقات مع سوريا؛ ذلك أن تركيا من بين الاقتصادات ال 20 الأكبر في العالم، رغم الأزمة المالية الخانقة، التي تعانيها، بينما لا يتجاوز حجم الاقتصاد السوري ال 70 مليار دولار. وقد تنامى التعاون التركي – الروسي في السنتين الأخيرتين؛ ليصل إلى حدود عقد صفقات كبيرة في مجال بناء المحطات النووية؛ لتوليد الطاقة الكهربائية في تركيا.