تركيا والعقدة الكردية
علي العبد الله – العربي الجديد
على الرغم مما شهدته العلاقات الأميركية – التركية من انفراجة، على خلفية إفراج تركيا عن القس الأميركي، أندرو برونسون، برفع العقوبات التي كانت واشنطن فرضتها على وزيري الداخلية والعدل التركيين؛ وتحريك خطة خريطة الطريق في منبج، إلا أنها بقيت انفراجةً ظاهريةً، فالخلاف بين الطرفين ما زال عميقا، ويهدد بأزمات جديدة في ضوء تعارض المواقف والتصورات إزاء الملف الكردي؛ الذي تعتبره تركيا الجذر العميق للخلاف؛ وتسعى، عبر إدارة شبكة علاقات وتوازنات إقليمية ودولية؛ ناهيك عن تحرّكاتٍ ميدانية، إلى دفع الولايات المتحدة إلى تغيير موقفها منه، وممارستها فيه، وتبنّي التصور التركي الذي يعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي فرعا لحزب العمال الكردستاني، ينطبق عليه ما ينطبق على الأصل؛ وتصنيفه، بالتالي، حزبا إرهابيا، ووقف التحالف معه، وتزويده بالأسلحة والذخائر والأموال، لما لذلك من أثرٍ على الأمن القومي التركي.
لم تقبل تركيا التبرير الأميركي للتحالف مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وجناحه العسكري (وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة)، ولا مع التشكيلة البديلة “مجلس سورية الديمقراطية” (مسد) وجناحه العسكري “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، اعتبرته خدعةً مكشوفة، بل ذهبت إلى التصعيد والمزاوجة بين السياسي والميداني، في تحرّكها للضغط على الولايات المتحدة، لإجبارها على التراجع عن موقفها من الملف، أو تحقيق أهدافها، رغما عن الموقف الأميركي بالانخراط في عمل سياسي وميداني مع روسيا، عدوة الولايات المتحدة وفق ما جاء في وثيقة الأمن القومي الأميركي أخيرا، وتوثيق علاقتها مع إيران، على الرغم من إدراكها طبيعة الاشتباك الأميركي الإيراني، وتقاطع مصالحها مع المصالح الأميركية ضد الوجود الإيراني في سورية، بالإعلان عن رفض العقوبات الأميركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب عليها، والانتقال من التهديد باجتياح منطقة شرق الفرات إلى حشد قواتها، في بداية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، في مواجهة مدن وبلدات على الحدود السورية التركية؛ وقصفها بين حين وآخر، وتحضير فصائل سورية موالية للمشاركة في عملية الاجتياح، بإخضاع عناصرها لتدريبات خاصة، ونقلها إلى مواقع على الحدود مع سورية، تحضيرا للهجوم الموعود، مع حملة دبلوماسية مكثفة، لقاءات مع مسؤولين سياسيين وعسكريين أميركيين؛ اتصالات هاتفية مع البيت الأبيض ووزارة الخارجية؛ وانتقادات رسميةٍ وإعلاميةٍ مركزة حول عدم صدقية الولايات المتحدة، وتقديم اتفاق منبج دليلا على ذلك.
ردّت الولايات المتحدة بإجراءاتٍ ميدانيةٍ، هاجسها الإبقاء على زخم العملية العسكرية التي تخوضها “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) في ناحية هجين/ محافظة دير الزور ضد الجيب الأخير لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وفرملة اندفاع تركيا، بإقامة أبراج مراقبة على الجانب السوري من الحدود التركية السورية (5 أبراج 3 في تل أبيض و2 في عين العرب/ كوباني، ستعقبها خطوات مماثلة في رأس العين وعامودا والدرباسية)، جاء قرار إقامة أبراج المراقبة بالتفاهم بين “قوات سورية الديمقراطية” وأميركا وفرنسا وبريطانيا، خلال الاجتماع الذي جمع بينهم في بلدة عين عيسى شمال مدينة الرقة، خطوة ووجهت بانتقاد تركي حاد، بعد أن كانت سيرت دوريات مشتركة مع “قسد” في البلدات السورية الحدودية شرق الفرات، ما أثار حفيظة تركيا، وتسيير دوريات أميركية تركية مشتركة في منبج. الخطوة الثانية في اتفاق منبج بين الطرفين، كانت الولايات المتحدة قد ماطلت في تنفيذها، كي لا تخسر حليفها المحلي، وكي تبقي الاتفاق ورقة مساومةٍ مع تركيا، بدءا من مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، لطمأنة “قسد” على تأمين ظهرها، من جهة، وسحب حجج تركية ومخاوفها حول أمنها، من جهة ثانية، وعرضت دفع ملايين الدولارات مقابل معلومات عن ثلاثة من كبار قادة حزب العمال الكردستاني، في إشارة إلى رغبتها فصل حزب الاتحاد الديمقراطي عن حزب العمال الكردستاني، قوبل العرض ببرود تركي، لا يستجيب لطلبها: وضع نهاية للتحالف مع حزب الاتحاد الديمقراطي، وجناحه العسكري، وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة.
أتاح التجاذب الأميركي التركي الجديد المجال لتحرّك روسي إيراني للاستثمار في لحظة التوتر عبر التقدم بخطوات داعمة لتركيا، وأخرى ضاغطة عليها، حيث بادرت روسيا إلى تعزيز تنسيقها مع تركيا، بالاتفاق على “مواصلة العمل على ضمان الاستقرار في مدينتي إدلب وتل رفعت”، وانتقاد موقف حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بالحديث عن توجهاتٍ انفصالية، وشن حملة دبلوماسية وإعلامية على الولايات المتحدة، بدعوى وجود أجندة أميركية خفية في سورية، وخصوصا شرق الفرات، ودعوة تركيا، في الوقت نفسه، إلى حسم ملف الجماعات المتطرفة في إدلب، تنفيذا لبنود اتفاق سوتشي بشأن المحافظة، وتنفيذها قصفا جويا على ريف غرب حلب، هو الأول منذ عقد الاتفاق، بذريعة قصف فصائل معارضة أحياء في حلب بغاز الكلور. أما إيران فدفعت بتعزيزات عسكرية إلى محيط إدلب، وشنت هجوما مباغتا على مواقع جيش العزة في ريف حماة الشمالي؛ وأعلنت، على لسان قائد الحرس الثوري الإيراني، اللواء محمد علي جعفري، بقاء قواتها في سورية ونيتها إرسال قوات حفظ سلام إلى إدلب ومنطقة شمال غرب حلب، بناء على طلب من الحكومة السورية، وتعزيز وجودهم غرب نهر الفرات في مدن المياذين والبوكمال ودير الزور؛ في مواجهة خطوط انتشار القوات الحليفة للولايات المتحدة؛ وتجنيد الحرس الثوري الإيراني سوريين وتدريبهم لتأسيس تنظيمات مسلحة موالية من أبناء المحافظة، لزجها في المواجهة المرتقبة مع القوات الأميركية وحلفائها.
تنطلق الولايات المتحدة، في تعاطيها مع تركيا والملف الكردي، من أنها دولة عظمى لها إستراتيجية كونية، متعددة المداخل والملفات والقضايا والحلفاء والخصوم؛ وكلها تشكل وحدةً واحدة مترابطة؛ ما يقودها إلى الربط بين المواقف والملفات والفرص والمخاطر في كل ملف، وأخذ تأثيراتها المتبادلة بالاعتبار، وهذا قادها إلى وضع السيطرة على منطقة شرق الفرات، ضمن إستراتيجيتها للشرق الأوسط، التي تتضمن مواجهة إيران لقطع طريق الإمداد بين طهران – بغداد – دمشق – بيروت، ما دفعها إلى التمسّك بالحليف المحلي، حزب الاتحاد الديمقراطي، مع العمل على الاحتفاظ بعلاقتها مع تركيا التي تربطها بها علاقةٌ سياسيةٌ وإستراتيجيةٌ قديمة، فاشتباكها مع روسيا والصين من جهة، وسعيها إلى احتواء التمدد الإيراني في الإقليم أعطى للوجود الأميركي في سورية والعراق أهمية جيواستراتيجية وجيوسياسية حاسمة، في ضوء حقائق السياسة وتوازنات القوى القائمة فيه. وهذا جعلها تتحسب لتوجهات تركيا، إن في سعيها إلى التمايز عنها وعن حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو نزوعها إلى لعب دور إقليمي ودولي خارج النسق الغربي، دفعها إلى توثيق علاقاتها مع المكون الكردي، والاعتماد عليه في تنفيذ جزءٍ من برنامجها السياسي والعسكري، خدمة لتوجهاتها السياسية والإستراتيجية في الإقليم والعالم.
لقد رفعت تركيا بعلاقتها بروسيا وإيران مستوى هواجس الولايات المتحدة ومخاوفها، وعمّقت قناعتها بضرورة الحليف المحلي الكردي، وبأهمية تعزيز قدراته عسكريا، عبر تنفيذ برنامج تدريبي، مدته سنة كاملة لتدريب ثلاثين ألفا من المقاتلين وعناصر الأمن، واعتماد الموازنة اللازمة لذلك، والعمل على تعديل تركيبة “قوات سورية الديمقراطية”، بزيادة أعداد العرب ودورهم، وإشراك السعودية والإمارات في الرعاية والتمويل، لطمأنة عرب المنطقة، وتخليصها من خلفيتها الماركسية والقومية المتطرّفة وإعادة صياغة وهيكلة الإدارة الذاتية، على أمل تحقيق تفاهم وتعاون بين تركيا وقيادة الإدارة؛ وإدارة ملف منبج، لتليين المواقف، وفتح باب التفاهم والتعاون.
حاولت تركيا من خلال المناورة بين الولايات المتحدة وروسيا تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية مباشرة. لكنها، وعلى الرغم من تحقيقها بعض المكاسب، لا تمتلك قدرات للاحتفاظ بها وتطويرها وتكريسها، فهي تعاني من نقاط ضعف جوهرية، فاعتمادها على الخارج في توفير قدرات عسكرية: أسلحة متطوّرة وذخائر ذكية، باتت علامة على تطور الدولة ومناعتها، علامة ضعف، وعجزها الذي ظهر في أثناء خلافها مع روسيا بعد إسقاطها طائرة السوخوي، وبروز حاجتها للدعم الأميركي أخيرا، لوقف الهجوم الروسي الإيراني على محافظة إدلب، وهي بحاجةٍ إلى هذا الدعم للإبقاء على اتفاق سوتشي، واقتصادها، الورقة التي يبرزها الرئيس التركي للإعلان عن نجاحاته، تعتمد على عوامل خارجية: الاستثمارات الأجنبية والسياحة، ناهيك عن الثمن الباهظ الذي دفعته لتحسين اقتصادها، مكشوفة بدين خارجي كبير (453 مليار الدولار على الدولة والقطاع الخاص)، وقد برزت هشاشة قاعدتها المالية بانهيار عملتها الوطنية، وارتفاع نسبة التضخم ومضاعفة قيمة الدين العام، عندما فرضت الولايات المتحدة عليها عقوبات بسيطة.
تستدعي اللحظة السياسية من تركيا تعديل سياستها إزاء ملفات عدة، أولها الملف الكردي الذي تحول إلى ثابت على جدول أعمالها وشكل صداعا دائما طال أمده؛ قتل مواطنيها ودمر عمران مناطق واسعة فيها، واستنزف مواردها المادية والبشرية، فلا مفر من التعاطي معه بروحية جديدة، عبر العودة إلى المسار السلمي مع كردها، والتعامل مع كرد سورية على نمط تعاملها مع كرد إقليم كردستان العراق، ثانيها التحرّر من عقدة الملف الوحيد، وإلا صبت جهودها في طاحونة خصومها، واضطرت للتسليم بخيارات روسيا، وتحولت إلى تابع لها، فتكون قد خرجت من تحت الدلف إلى تحت المزراب.