إدلب: الهدف المقبل

5

إياد الجعفري  – المدن

لو أردنا أن نجري جلسة “عصف ذهني” لاستكشاف السيناريوهات المحتملة لإدلب، في ظل التوعد الروسي لها بأن تكون التالية بعد درعا، قد نجد أن التوقعات بصيف ساخن في سوريا، لم تنبع من فراغ.

 

المعني الثاني بمصير إدلب، بعد السوريين القابعين في تلك البقعة الجغرافية، هم الأتراك. ويرتبط مصير إدلب بخيارات الأتراك، بصورة رئيسية. وربما بدرجة أقل، بخيارات السوريين هناك.

 

ويتوقف الكثير مما قد يحدث في إدلب، على نتائج لقاء هلسنكي المرتقب بين ترامب وبوتين. ذلك أن الأتراك أفادوا كثيراً من الخلافات الروسية – الأمريكية في سوريا، بصورة مكنتهم من تحصيل تنازلات من الطرفين، وسمحت لهم بتحقيق وجود ميداني مباشر، على الساحة السورية. لكن تلك الخلافات مؤهلة لتسوية ما، تم الحديث عنها كثيراً، في الأيام القليلة الماضية. ويبدو أن التخلي الأمريكي عن جنوب سوريا، كان إحدى مقدماتها. فإذا تُوج لقاء هلسنكي بتفاهمات روسية – أمريكية، أبصرت النور بالفعل، في سوريا، فهذا يعني، أن هامش المناورة لدى الأتراك قد أصبح ضيقاً، أو معدوماً كليةً.

 

لنأخذ الاحتمال الأول، وهو ألا تؤدي محادثات هلسنكي إلى تفاهمات مستقرة بين الأمريكيين والروس، وأن تستمر لعبة شد الحبل بين الطرفين، على الساحة السورية. في هذه الحالة، سيتمتع الأتراك بهامش أكبر، قد يسمح باستمرار الحالة الخاصة التي تتمتع بها إدلب، بوصفها منطقة “خفض تصعيد”، مؤجلة الحسم. أو قد يفتح ذلك الباب أمام سيناريوهات أخرى، من قبيل، قيام الأتراك بعمل عسكري واسع النطاق في إدلب، برأس حربة من المقاتلين السوريين الموالين لهم، للسيطرة بشكل نهائي على إدلب، وإنهاء إشكالية “فتح الشام”، تماماً، بوصفها ذريعة للروس والغرب. في سيناريو كهذا، ستُلحق إدلب بمنطقة “درع الفرات”، شمال حلب، ليبقى مصيرها مؤجلاً إلى حين حصول تسوية سياسية نهائية للأزمة السورية، يكون فيها للمعارضة السورية، المدعومة تركياً، نصيب من الحكم.

 

هكذا سيناريو، تعوقه الكثير من التحديات، أبرزها، عدم وجود رغبة تركية في التورط بحرب لن تكون سهلة، في العمق السوري، ومع جماعة جهادية متمرسة، ما يزال لها نصيب من تأييد الشارع، وإن انحصر هذا النصيب بصورة كبيرة، مؤخراً.

 

حاولت تركيا خلال السنة الفائتة أن تحقق اختراقات أمنية، وأن تستخدم فصائل محسوبة عليها، بغية حصار “فتح الشام”، ودفعها أكثر فأكثر نحو خيارات الحلّ، والانصياع للرغبة التركية. لكن، لم تفلح تلك الأدوات في الوصول لهذه الغاية حتى الآن، وإن كانت قد قلّصت من قدرات “فتح الشام”، بنسبة ملحوظة.

 

ومع استمرار وجود “فتح الشام”، سيبقى هناك ضغط على الأتراك، مفاده أن هناك في إدلب، جماعة مصنفة، “إرهابية”، على المستوى الدولي، والأتراك عاجزون عن حسم الموقف حيالها. لكن، في الوقت نفسه، إذا استمرت حالة الشد والجذب بين الأمريكيين والروس، على الساحة السورية، فإن الأتراك سيبقون في وضع أفضل يسمح لهم في دفع الضغوط عنهم. فالروس لن يرغبوا في خسارة تحالف أثبت جدواه مع الأتراك، خلال السنتين الأخيرتين، ناهيك، عن نظرة موسكو الإيجابية للنخبة الحاكمة في أنقرة، بوصفها أفضل النخب التركية التي يمكن أن تحكم البلاد من وجهة نظر المصلحة الروسية، كون هذه النخبة غير منصاعة للغرب، بخلاف النخب التي حكمت تركيا سابقاً. كذلك الأمريكيون، ليسوا في وارد تأزيم علاقاتهم أكثر مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد أن أحكم سيطرته على الدولة التركية. فالرجل الذي أزعجهم كثيراً، بات يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة، في البلاد. وليس من مصلحتهم الدفع به أكثر، نحو الجانب الروسي.

 

لكن، إذا نجم عن لقاء هلسنكي تفاهمات روسية – أمريكية، رتبت المشهد السوري، وخففت من التوتر بين الطرفين في ملفات أخرى، فهذا يعني أن الحملة الروسية المرتقبة على إدلب، ستكون تحدياً غير مسبوق للأمن القومي التركي.

 

في هذه الحالة، يمكن أن تتكرر تجربة درعا، في بعض جوانبها. إذ من المستبعد أن تفتح تركيا حدودها لما يفوق المليوني سوري سيفرون من العنف في إدلب. وهكذا، قد نرى شريطاً حدودياً يكتظ بالنازحين، في مخيمات طارئة، وظروف إنسانية مأساوية. وستكون تلك أداة تركيا للضغط على المجتمع الدولي، للتدخل بأسرع وقت ممكن، لتلافي حصول كارثة إنسانية. وقد تلوح تركيا بفتح الحدود أمام النازحين، للعبور نحو أوروبا، وهو ضغط لن يتأثر به لا الروس ولا الأمريكيون، إذ سيكون الأوروبيون، الحلقة الأضعف.

 

أما على الصعيد الميداني، فلن تكون إدلب كدرعا، أو كسابقاتها في الغوطة وشرقي حلب. فإدلب تكتظ بعشرات آلاف المقاتلين، الجهاديين والآخرين الذين غادروا مناطقهم بموجب اتفاقات التسليم لنظام الأسد، بعد أن رفضوا الخضوع له. ومع عدم وجود بديل عن إدلب، يمكن ترحيل الرافضين للتسوية مع النظام، إليه، يصبح لدى أولئك المقاتلين المتمرسين، خيار وحيد، وهو القتال حتى الموت. وهنا دون شك، ستتكرر حالات التسليم للنظام، وسيظهر الكثير من “الضفادع”. لكن في المقابل، سيكون هناك فريق كبير من المقاتلين، مستعداً للقتال حتى الموت، لأن لا خيارات أخرى أمامه. خاصة من الجهاديين المصنفين كـ “إرهابيين”، من السوريين، ومن الوافدين من دول أخرى. وهؤلاء، رغم أنهم قد يتعرضون لمقتلة كبرى، إلا أنهم في الوقت نفسه، قادرون على تنفيذ عمليات استنزاف دامية للمقاتلين من نظام الأسد والإيرانيين. فمع نزوح معظم المدنيين، كما هو متوقع، تصبح بلدات وقرى إدلب، وكذلك سهولها وجبالها، ساحات مناسبة لاستنزاف الميليشيات المهاجمة. وفي حرب كهذه، لا يكفي الغطاء الجوي للحسم. ويبقى الأمر وقفاً على إرادة القتال، لدى الطرف الذي لا خيارات لديه، والذي يملك الخبرة الأكبر بأرض المعركة، والذي يعتقد أنه يتعرض للبغي والعدوان. ولذلك، من المستبعد أن تكون المعركة في إدلب، نزهة لنظام الأسد وحلفائه الإيرانيين.

 

أما السيناريو الثاني، فهو أن يلتزم الأتراك بتعهدهم، بالدفاع عسكرياً عن إدلب. خاصة في ظل تواجدهم المباشر هناك. وهو أمر في غاية الخطورة، ومستبعد إلى حد كبير، نظراً لحساسية الأتراك، إلى جانب أنهم سيكونون في مواجهة قوة دولية كبرى، هي روسيا. لكن، في الوقت نفسه، يملك الأتراك خيارات كثيرة، ليس أقلها، تذخير جميع الفصائل المتواجدة في إدلب، بكل ما تحتاجه من آلة قتالية، وتحويل المشهد إلى حرب مفتوحة، قد تمتد إلى الساحل السوري. هو سيناريو، قد يقترب من الاستحالة، في نظر الكثيرين، لأنه يتطلب جرأة تركية كبيرة، قد يعتبرها البعض تهوراً. لكنه لو حصل، فإنه سيقلب المشهد في سوريا، برمته.

 

أما السيناريو الثالث، والارجح، فهو أن يكون الأتراك جزءاً من التفاهم الأمريكي – الروسي، الذي سيتناول مصير شرق الفرات أيضاً. وأن تحصل تركيا على ما تريد في سوريا، وهو إجهاض أي مشروع كردي انفصالي، وحل مشكلة اللاجئين لديها. وهو يعني ترتيب مصالحة بين نظام الأسد وبين الفصائل المحسوبة على تركيا، في شمال البلاد، وكذلك في إدلب. وستبقى “فتح الشام”، وحيدة في الساحة الإدلبية، أمام خيارين لا ثالث لهما، إما التعرض لحملة عسكرية شعواء، بمباركة تركية غير معلنة في أحسن الأحوال، وبحياد من باقي الأفرقاء السوريين.. أو حلّ نفسها، والبحث عن مخرج ما لأفرادها، خارج الساحة السورية.

 

قد تفاجئنا الساحة الإدلبية بسيناريوهات غير متوقعة. لكن، في ضوء التجارب المتتالية في مناطق سورية مختلفة، يبدو أن السيناريوهات سابقة التفصيل، هي الأكثر ترجيحاً، خاصة منها السيناريو الأخير. أو قد نشهد تلك السيناريوهات الثلاثة، معاً، لكن بشكل متداخل.

 

وما دامت تلك الاحتمالات واضحة، يصبح ترتيب الأوراق في إدلب، متاحاً، في الأسابيع القليلة القادمة، قبل أن تستدير آلة الحرب الروسية، بما تحتويه من ميليشيات أسدية وإيرانية، باتجاه تلك البقعة من الجغرافيا السورية. فهل قرر المعنيون هناك، وفي مقدمتهم، الجهاديون، ما يعتزمون فعله؟، وهل درسوا خياراتهم جيداً؟

Leave A Reply

Your email address will not be published.