المنطقة الآمنة

1

عبد الوهاب أحمد – العربي الجديد

دفعت تغريدة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن إقامة منطقة آمنة بعمق عشرين ميلا داخل الأراضي السورية على الحدود مع تركيا الحراك الدبلوماسي إلى أعلى مستوياته، على الصعيدين الإقليمي والدولي، وولدت هاجساً وإرباكاً لدى أطراف متضرّرة أو مستفيدة من التطبيق الفعلي لهذا الموقف على الأرض، لتبدأ معها رحلة البحث عن إجاباتٍ مقنعةٍ لتساؤلات: أين ستكون حدود هذه المنطقة؟ ومتى ستنفذ؟ وكيف ستدار؟ ومَنْ سيكون المحمي فيها؟
كردياً، يبدو المشهد أكثر تعقيداً، وحاملاً جملة من الشكوك والتساؤلات، سيما وأن المنطقة المعنيّة تسكنها غالبية مطلقة كردية، وسدسرها حزب الإتحاد الديمقراطي، غير المرغوب به تركياً، وحليفٌ لأميركا في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
بُعيد موقف واشنطن الجديد، بدأت لقاءات ومشاورات أميركية مع تركيا للوصول إلى صيغةٍ ترسم ملامح هذه المنطقة، وتبدد “المخاوف” التركية وتحمي مصالحها. وفي الوقت نفسه، تحافظ على العلاقة مع حزب الإتحاد الديمقراطي وتستفيد من بسالة مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الحرب ضد داعش، وتؤمن عدم خسارة هذه القوات لصالح محور روسيا وإيران والنظام.
في المقابل، تشي حركة تتبع سير التحركات الدبلوماسية لوفود حزب الإتحاد الديمقراطي باتجاه دمشق وموسكو، بأنه فقد الثقة بالحليف الأميركي، بعد إعلانه وبشكل مفاجئ عن سحب قواته من سورية، الأمر الذي اعتبره الحزب “طعنة في الظهر” لطالما تجاهل مصلحة حليفه ومستقبله في العملية السياسية وسورية عموماً. قناعة البحث عن موطئ قدم في المرحلة التي تلي الانسحاب الأميركي باتت تشكل الأولوية القصوى لدى الاتحاد الديمقراطي، خصوصا وأن تركيا لن تردع عن المطالبة بإبعاده حتى عمق معين داخل الأراضي السورية، وتتحضر لعملية عسكرية واسعة ضده بالتعاون مع المجموعات المسلحة السورية، وروسيا داعمة النظام في دمشق، وحليفة تركيا في أستانة وسوتشي إلى جانب إيران، وسوف لن يكون الإبتعاد عنها سهلاً ومستساغاً مع الغياب الميداني لأميركا ومشروعها في شرق نهر الفرات.
وهنا، تواجه الحزب معضلة، لا تكمن في حسم خياره فقط، بقدر قبول الآخرين لخياره المحدد، وهذا ما يحاول بلوغه قبل أن تصل الإدارة الأميركية إلى تفاهمات وتوافقات مع تركيا وبعض الدول الإقليمية والقوى المحلية في منطقة شرق الفرات، وقبل الشروع في تنفيذ خطوات “المنطقة الآمنة”. وتيرة اللقاءات الأميركية التركية، وجولة الوزير، مايك بومبيو، للمنطقة وقبله زيارة مستشار الأمن القومي، جون بولتون لتركيا، إلى جانب تسريبات حول وجود تفاهم على استبدال قوات سوريا الديمقراطية بأخرى محلية متمثلة بقوات “بيشمركة روج” التابعة للمجلس الوطني الكردي، وقوات “النخبة” للمعارض أحمد الجربا، وكذلك استقدام قوات عربية بقيادة السعودية والإمارات ومصر بالتعاون مع الفرنسيين لملء الفراغ بعد رحيل القوات الأميركية. جميع هذه المعطيات أجبرت الحزب (الاتحاد الديمقراطي) على تقديم مشروعين متتالين في غضون أسبوع، إحداهما لموسكو والآخر لدمشق، وفق ما نشر بنوده في وسائل الإعلام أخيرا، حيث يظهر في كليهما مدى تنازل هذا الحزب عن “ثوابت مشروعه” منذ أن تولّى السيطرة على المناطق الكردية في الشمال السوري، وواضح كيف أنه ينازع للهروب من دائرة الخيارات التي ستفرض عليه لاحقاً، فهو إما أن يقبل بالشروط الروسية كما هي دون المطالبة بأي إملاءات على النظام، حيث يسمح عودة الأخير بكامل إداراته وصلاحياته إلى الشمال السوري، وحل وحدات الحماية الشعبية، وإلغاء الإدارة الذاتية ومؤسساتها وكل ما ترتب على ذلك، أو ينتظر مصيره، ويبتعد عن الحدود التركية إلى عمق ثلاثين كيلو متراً باتجاه الرقة ودير الزور تماشياً مع شروط “المنطقة الآمنة” المتوقع تنفيذها أميركياً وتركيا.
بعيداً عن مصالح حزب الإتحاد الديمقراطي وتورطه في الدخول لحلبة الكبار المتنفذين في الأزمة السورية، تكمن قضية أكبر وأعمق من إشكالية وجود حزب على عداوة مع تركيا، هذه القضية تتمثل في وجود شعب بحاجة إلى توفير الحماية لمناطقه وتأمين حقوقه وحل قضيته، والتي لا تختزل فقط في إقامة منطقة “آمنة” طارئة نزولاً للرغبة التركية، أو منعها بشن عملية عسكرية في الشمال السوري، ولا تكون مرهونة لخطة أميركية لمواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، وضرب الحلف الثلاثي في أستانة وسوتشي (روسيا، تركيا، إيران).
للشعب الكردي في سورية خيار وحيد لا سبيل سواه، يكمن في العمل مع بقية الشعب السوري في إقامة دولة سورية “كلها آمنة”، تتمتع بنظام حكم ديمقراطي تعددي لا مركزي، يتساوى فيها الجميع دستورياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً وحضارياً، دون المساومة على حق طرف وقضيته لحساب طرف آخر استجابة لمصالح الدول الإقليمية والدولية، وإذا كان ولا بد من منطقة آمنة في زمن الحرب، وقبل الوصول إلى تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية في المناطق الكردية، يجب أن لا تفتح هذه المنطقة باباً لنزاعات وعداوة مع الشعب الكردي على أرضه يهدد وجوده ومستقبله، وأن تكون بمفهومها القانوني الدولي والمعرفي حماية حقيقية ودفاعاً عن الشعب الكردي ومكونات المنطقة ضد التهديدات التركية والفصائل السورية المسلحة المتعاونة معها، أو المجموعات الإرهابية مثل النصرة وداعش، تؤمن الاستقرار والأمان، وتهيئ الأرضية الملائمة لحسر فوضى السلاح، والانطلاق نحو عملية سياسية مبنية على قرار مجلس الأمن 2254 وبيان جنيف 1 والرياض 2.

 

Leave A Reply

Your email address will not be published.