عشرون عاماً من التفاوض خير من ساعة حرب

3

لقاء مع الزعيم مسعود البارزاني

عشرون عاماً من التفاوض خير من ساعة حرب – خالد شوكات

دعيت الأسبوع الماضي من قبل جامعتي كويا وبغداد للمشاركة في مؤتمر دولي حول “الحوار العربي – الكردي” احتضنه اقليم كردستان العراق وشاركت فيه مجموعة من الشخصيات السياسية والفكرية، وقد سعدت بأن تشاركني من تونس في هذه الفعالية العراقية، الكردية العربية، الدكتورة آمال قرامي الباحثة الجامعية والمثقفة العضوية، كما اخترت لمداخلتي العنوان التالي: الحوار العربي-الكردي: وجهة نظر مغاربية”، فأنا من الذين يؤمنون بأن التجربة المغاربية في إدارة التنوع القومي واللغوي والثقافي يمكن ان تكون مفيدة للقياس واستخلاص الدروس والعبر وتقويم المقاربات والمفاهيم، في نقاط قوّتها وضعفها معاً.

وقد بنيتُ مداخلتي خلال هذا المؤتمر الذي ساهمت في اثراء أعماله كثير من الأسماء البارزة في مجالات البحث العلمي والإعلام والسياسة وحقوق الإنسان من داخل العراق وخارجه، على أربع مقاربات رئيسية هي كما يلي:

أولا: إن الحوار يجب أن يتسع لأمم الإقليم الطبيعية الأربع، العربية والكردية والايرانية والتركية، التي تتقاسم الجوار وكثيرا من الخصائص المشتركة منذ قرون، والتي لا تحمل بالتالي طابعا استيطانيا او احتلاليا مفروضاً من خارجها، كما هو شأن الكيان الصهيوني مثلا. وهو الحوار الذي دعا إليه “إعلان تونس” الوثيقة الختامية لمؤتمر “حوار الأمم الأربع” المنعقد بين 23 و25 ديسمبر 2016 والمنظم من قبل المعهد العربي للديمقراطية.

ثانيا: إن الهدف من الحوار يجب ان يكون مساعدة مراكز القرار لدى الأمم الأربع على السير بدول وشعوب المنطقة نحو “التكامل الإقليمي”، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وعلميا واجتماعيا وفي جميع مجالات الحياة، وذلك بدل التناحر والصراعات والحروب التي طالما وسمت تاريخ هذه الامم الحديث والمعاصر وعطّلتها عن بناء مستقبل افضل لأبنائها، فبمقدور هذه الأمم “أن تعظّم الجوامع التي بينها عِوَضاً عن تضخيم الفوارق” مثلما قال الصديق المفكر العربي العراقي الكبير الدكتور عبد الحسين شعبان.

ثالثا: المقاربة الثالثة هي أن مثل هذا الحوار سيعزز من ثقافة السلام واللاعنف في مواجهة ثقافة الحرب والعنف، فمنطقة الأمم الاربع هي المنطقة الأكثر ابتلاء بالنزاعات المسلحة الثنائية والجماعية، والأفكار العنيفة والإرهابية، وتبذير المال العام في شراء الأسلحة وتكديسها واستعمالها في معارك الاخوة الأعداء غالبا، وهو واقع يجب ان يتغير لصالح الاستثمار في ما ينفع الناس ويقرّب بينهم وينقص من عدوانيتهم وحدّتهم على بعضهم، فثقافة السلام واللاعنف وحدها الكفيلة باغلاق الأبواب امام التدخلات الخارجية ذات الاجندة الاستعمارية والاستغلالية غالبا.

رابعاً: المقاربة الرابعة والاخيرة تتمثل في ضرورة العمل المشترك من أجل بناء “دول مدنية” و”أنظمة ديمقراطية”، فذاك هو السبيل الوحيد لتوفير فضاء للأخذ بالمقاربات الثلاث السابقة والاستفادة من تطبيقها، لأن الدول المدنية ذات الأنظمة الديمقراطية عادة ما تكون أقوى في مواجهة الاملاءات والمخططات الخارجية، والأكثر حرصاً وقدرة على تبنّي سياسات ملائمة لتحقيق المصالح العليا للشعوب واستدامتها.  واستنادًا لهذه الرؤية ذات المقاربات الأربع، كان رأيي أن وضع الأخوة الأكراد في العراق يعتبر الافضل قياسا بأوضاعهم في تركيا وإيران، وقد كانت مشكلتهم مع العرب قياسا الى مشكلتهم مع الاشقاء الترك والفرس، أخف وطأة وأكثر استعدادا للتسوية، وان رفض تقرير مصيرهم واستقلالهم كان قرارا اقليميا ودوليا اكثر مما هو عراقي وعربي، ولهذا وحتى ذلك الحين الذي تتغير فيه المعطيات الاقليمية والدولية المذكورة، وفي مقدمة ذلك الممانعة الايرانية- التركية، على أكراد العراق المساهمة بجدّية في تدعيم وتطوير “الدولة العراقية المدنية الفدرالية الديمقراطية” باعتبارها النموذج الافضل الذي يحقق المصالح الكردية والعربية العليا.  هذه الرسالة الواضحة، كان لي شرف ايصالها لرئيس اقليم كردستان الزعيم الكردي الكبير “كاكا مسعود البارزاني”، حين التقيته لمدة ساعة تقريبا صبيحة يوم الاثنين 29 ابريل(نيسان) 2019? بمقر إقامته الرئاسي في احدى ضواحي العاصمة الكردستانية “إربيل”، وتحدّثت معه في مواضيع كثيرة تخصّ الماضي والحاضر المستقبل، واعتبرت نفسي محظوظا بهذا اللقاء مع إحدى أهم الشخصيات السياسية “المشرقية”، التي ساهمت في صناعة الأحداث في المنطقة الشرق-أوسطية طيلة النصف قرن الماضية، فكاكا مسعود كما يحلو للأكراد تسميته، أي الأخ مسعود باللغة الكردية، يعدّ إلى جانب منافسه التاريخي على زعامة أكراد العراق، الرئيس العراقي الراحل وزعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني ” جلال الطالباني” أو “مام جلال” (أي العم جلال بالكردية)، والزعيم الكردي التركي مؤسس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، أهم ثلاثة رموز معاصرة للقضية الكردية، الحيّة في نفوس الأكراد في الدول الأربعة حيث يعيشون في أقاليمهم وعلى ارضهم المقسمة، العراق وتركيا وإيران وسوريا، وفي مختلف دول العالم، خصوصا تلك التي احتضنت لاجئين أكراد شتتتهم سياسات الأنظمة المستبدة والغاشمة.

بدا لي الرئيس مسعود البارزاني متابعا لتطوّرات الامور في البلاد المغاربية، فقد سألني عن الأوضاع في كلٍّ من ليبيا والجزائر، مشيرا الى ادراكه صعوبة الأوضاع في تونس جرّاء هذا الموقع الجغرافي الضاغط، لكنّهُ أكد على ثقته التامة في قدرة التونسيين على التعامل مع الحالة مهما بلغ تعقيدها وحماية تجربتهم الديمقراطية الناشئة، ومردّ ذلك برأيه الاسس المتينة التي بنى عليها الزعيم الحبيب بورقيبة رحمه الله المجتمع والدولة في تونس، ومن أهما العقلانية والواقعية. في هذا السياق أخبرني الزعيم الكردي برأي والده الملّا مصطفى البارزاني مؤسس الحزب الديمقراطي الكوردستاني والزعيم التاريخي للقضية الكردية حتى تاريخ وفاته سنة 1979? في قائد الحركة الوطنية التونسية وأب الدولة المستقلة، حيث قال انه لما طلب العرب من والده إرسال فرقة من البشمركة (تنظيم فدائي كردي مسلح) لتلتحق بجبهات القتال الًى جانب الجيش العراقي اثر نكسة 1967 صد الجيش الصهيوني، نصح الملاّ مصطفى القادة العرب للأخذ برؤية ونصيحة الرئيس التونسي التى صدع بها في خطابه بأريحا سنة 1965? لأنه الوحيد الذي قدّم حلّا واقعيا ومبدئيا، يأخذ بعين الاعتبار وضعية الجيوش العربية التي تملك سلاحاً لم تتدرب عليه بالقدر الكافي.  عندما عدنا للحديث عن الوضع العراقي وآفاق القضية الكردية، قال لي الرئيس البارزاني جملة علقت في ذهني وتستحق ان تحفظ فعلا : “عشرون سنة من التفاوض خير من ساعة حرب”، وهي عبارة تنمّ عن تجربة طويلة مع الحروب والصراعات المسلحة ووقوف عن آلامها المبرحة وآثارها المدمرة على الشعوب، إذ ليس ثمّةَ أبشع من الحرب وأقسى، ومن هنا رغبة الزعيم الكردي في تجنيبه ويلات المعارك وقساوة الخصومات العسكرية الطاحنة. لقد قاسى الشعب الكردي ما يكفي ليتعلق بالسلام والحريّة والديمقراطية، وقد كشف لي رئيس اقليم كردستان العراق بان الغاية من استفتاء تقرير المصير لم تكن أبدا الاستقلال كما يكون البعض قد فهم داخل العراق وخارجه، بقدر ما كان الرغبة في التأكيد على ان حق تقرير المصير يظل حقاًّ ثابتا للشعب الكردي لا يسقط بالتقادم، مع تصميم الأكراد على المشاركة الجدية في إقامة دولة عراقية حديثة، مثلما نصت على ذلك اتفاقية سيفر لعام 1920 اذ اشارت الى تلبية بعض حقوق الكرد، وهو ما أكد عليه الدستور العراقي الجديد لسنة 2005 ايضا. في خاتمة اللقاء، قلت للزعيم الكردي مسعودق البارزاني ان من أهم الدورس التي يجب ان تستخلص من أزمة الاستفتاء، العمل باقصى جهد على تحويل اقتصاد اقليم من اقتصاد ريعي يعتمد على عائدات النفط، التي لا يمكن ضمان استقرارها لاعتبارات عدة داخلية وخارجية، إلى اقتصاد انتاج متنوع بمقدوره الاستفادة من موارد كردستان العراق الطبيعية والبشرية، فالإقليم يتوفر على ثروات مائية وأراض خصبة ومقومات سياحية وزراعية واعدة، كما ان قطاع الخدمات قابل التطوير والنمو، وهو ما وافقني عليه الزعيم الكردي كلّيا، مبيّنا مجالات التعاون الممكنة مع تونس التي بمقدورها المساعدة والاستفادة المتبادلة، خصوصا كفاءاتها وخبراتها البشرية المتميزة، وقد وعد الرئيس البارزاني الذي سيغادر موقعه قريبا بعد انتهاء ولاياته الدستورية، بأن ينصح الحكومة الكردستانية الجديدة بالتوجه نحو تونس في أقرب الأوقات.  ثمّةَ أمرٌ لا بدَّ من قوله قبل الختام، وهو ما سمعته من مصادر متعددة، ان الرئيس العراقي الراحل صدام حسين قد أوصى عائلته بالالتجاء إلى “كاكا مسعود” عندما تضيق بهم الحال ولا يجدون ملجأ يأويهم، وهو ما حصل بالفعل، فعلى الرغم من العداوة الظاهرة بين الرجلين، كان كلاهما يكّن للاخر قدرا من الاحترام، وهذا النوع من الصلات الانسانية لا يعرفه إلا من خَبِرَ قساوة الحرب.

 

Leave A Reply

Your email address will not be published.