الاتفاق النووي مع إيران يهدد السلام
«الزفة» التي يقودها الرئيس الأميركي لترويج الاتفاق الأخير بين القوى الكبرى (الخمس الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن مع ألمانيا) وإيران، ينظر إليها أهل المنطقة بمنظور اختبروا فيه بأنفسهم أطماع إيران في استراتيجية طويلة الأمد للهيمنة على الخليج وتصدير الثورة والمتاعب.
وواقعيًا مخاوف الإسرائيليين حقيقية؛ فبجانب تكرار التهديد بمحو إسرائيل، فإن أي انفجار نووي لا يهلك فقط الفلسطينيين والإسرائيليين معًا، بل يتساقط غباره المميت على الجيران العرب، ورغم ذلك، فإن الدول المهددة مباشرة من طهران لم تشترك في المفاوضات التي اقتصرت على دول لا تهددها إيران واقعيًا.
ظهر الدهاء الإيراني والصبر، الذي قد يفوق صبر أيوب، في مفاوضات زادت على عقد كامل خرجوا منها بنتائج لم يحلم بها المتفائلون بينهم.
لم تدخل الجمهورية الإسلامية المفاوضات لغرض السلام، بل للخروج من مأزق اقتصادي دخلت فيه نتيجة العقوبات التي فرضت عليها بسبب إخفاء منشآت وتكنولوجيا البرنامج النووي عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ولولا وثائق المعارضة الإيرانية عام 2003 لظل مركز تخصيب اليورانيوم في ناتانز غائبًا عن ملفات الوكالة الدولية في فيينا. كذلك حال المركز الأكثر تقدما في إنتاج مكونات الأسلحة الذرية في جبل «فوردو» المحصن، الذي لم يذكر في الوثائق التي قدمتها إيران للوكالة واكتشف منذ ستة أعوام فقط (بينما المفاوضات دائرة) بفضل خبير شارك فيه ولجأ إلى بريطانيا وقدم المعلومات.
السؤال الدائر لسنوات: إذا كان الغرض من تخصيب اليورانيوم سلميًا فقط، فلماذا السرية الكاملة وإخفاء إيران مراكز تخصيب اليورانيوم تحت جبال محصنة؟
فبجانب المراوغة في تفاصيل التفتيش ونوعه، كانت إيران تخفي معامل كاملة ومواقع كثيرة عن الوكالة الدولية وتستمر في التفاوض.
ومنذ أكثر من عشر سنوات عرض العالم على إيران تقديم اليورانيوم المخصب من أطراف لا تعاديها الآيديولوجيا الخمينية كالصين وروسيا، لكن إيران أصرت، بشكل يدعو للقلق، على تخصيب اليورانيوم بنفسها بتكاليف تبلغ أضعاف ثمن استيراد المثيل المخصب.
أسباب دعت الجيران إلى التشكيك في نيات بلد يمتلك من الثروة الطبيعية في البترول الخام ثاني أكبر احتياطي في العالم، إلى جانب الطاقة الشمسية وموارد الطاقة الهيدروليكية.
وبعد أكثر من عقد من المفاوضات وتوقيع الاتفاقية التي يهلل أوباما واليسار الطفولي العالمي لها، أتحدى أي خبير أو دبلوماسي في العالم أن يقول إنه يعرف بالضبط الأغراض والنيات الحقيقية طويلة الأمد للبرنامج النووي الإيراني.. بل وأتحدى الخبراء والدبلوماسيين الذين توصلوا إلى الاتفاق أن يقدموا تفسيرات يقبلها العقل للتناقضات والفجوات في المعلومات والروايات التي قدمها الخبراء والدبلوماسيون الإيرانيون في بداية المفاوضات وأثنائها وقبل وبعد اكتشاف المواقع التي أنكرت إيران وجودها أصلاً.
وبدلاً من الإجابة المقنعة عن هذه الأسئلة المعقولة (والقانونية حسب متابعة الوكالة لتطبيق معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية) وشرح أسباب التناقضات وفتح الأبواب للمفتشين، فإن إيران رفضت تقديم المعلومات المطلوبة؛ بل وعدّت (علنًا في مؤتمرات صحافية) أن مطلب الوكالة الدولية أن يقوم مفتشوها بزيارة هذه المواقع «إهانة وعدم احترام لسيادة إيران الوطنية». ببساطة فجرت إيران مشكلة دبلوماسية مع الوكالة ليكون الخلاف ذا طابع سياسي وليس تقنيًا حول طبيعة هذه المواقع التي أخفتها إيران، والتالي تحويل الأنظار والجهود عن المشكلة الحقيقية.
كان المتوقع والطبيعي في هذه الحالة أن يكون رد واشنطن (بوصفها القوة العظمى الكبرى التي تقود التحالف العالمي ويصدعنا رؤساؤها صباحًا ومساءً بسمو ورفعة القيم التي ضمنها الدستور الأميركي في الحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ أي عكس الواقع اليومي الذي يختبره المواطن الإيراني) على المراوغة الإيرانية ورفضها التعاون مع إحدى أهم وكالات الأمم المتحدة التي تعمل للسلام العالمي، هو إبقاء العقوبات الاقتصادية والمالية والحظر على تصدير الأسلحة، كما هي؛ بل وتشديدها حتى يقدم نظام آية الله الخميني الإجابة عن كل أسئلة الوكالة ويتعاون تعاونًا كاملاً مع مفتشيها. للأسف لا يسكن البيت الأبيض اليوم رئيس في حسم وقوة رونالد ريغان؛ فبدلاً من الإصرار على أن يقدم ملالي إيران وقادة الحرس الثوري فيها كشف الحساب كاملاً وإيقاف الطموح النووي (لغرض سياسي هو الهيمنة على المنطقة)، يحتفل الملالي وحلفاؤهم من مصدري الثورة والمتاعب وعدم الاستقرار، وأنظمة مثل «البعث» السوري، بخروجهم فائزين من ماراثون المفاوضات التي أنهكت الجميع؛ ولا يعرف أحد بالضبط ما نيات الملالي الحقيقية. انتهت المفاوضات باتفاقية تسمح لإيران بالاحتفاظ بكل الوسائل والتكنولوجيا والمواد والأدوات التي تمكنهم ذات يوم من تركيب قنبلة نووية في غضون أيام وربما ساعات؛ مع وسائل إيصال القنبلة النووية إلى أهدافها كالصواريخ الباليستية.
الإيرانيون مغتبطون بالاتفاقية (يسمونها تاريخية طبعًا)، فهم يتوقعون رفع العقوبات التجارية وسيولة أرصدتهم المجمدة التي تقدر بنحو 150 مليار دولار. المسؤولية (التاريخية طبعًا!) يتحملها الرئيس أوباما؛ فبدلا من الاهتمام بإحكام العقوبات حتى يطبق الملالي القانون الدولي، قصر همه على دوره التاريخي بوصفه رئيسًا لم يرسل قوات أميركية للحرب وأول من توصل لاتفاقية (تاريخية) مع إيران.
تناسى أوباما (زعيم «الشيطان الأكبر» في القاموس الإيراني) أن مؤسس الجمهورية الخميني (الذي لم يدع مرة واحدة إلى التسامح أو السلام أو المحبة) وضع شعائر صلاة الجمعة الرسمية بالصرخة الثلاثية: «الموت لأميركا الشيطان الأكبر».
الفجوة بين تفكير الرئيس أوباما – إذا كان يصدق بالفعل ادعاءه بأن الاتفاقية «تغلق ممرات إيران نحو الأسلحة النووية» – وما يعرفه أهل المنطقة عن مراوغة الإيرانيين وطموحات المتشددين في الجمهورية الإسلامية، هي فجوة بعمق واتساع المحيط الأطلسي وليس الخليج.
فما الآليات المتاحة لإجبار الإيرانيين على الالتزام بشروط الوكالة الدولية لقيام المفتشين بعملهم، خاصة في مواقع لا تزال محتوياتها وأدواتها في كهف الغموض؟
وإلى جانب القلق من أن الإسرائيليين قد تدفعهم مخاوفهم الحقيقية وفقدان الثقة الآن بالسياسة الخارجية الأميركية، إلى عمل متسرع لا تحمد عقباه؛ فإن الجانب العربي من الخليج، وهو المستهدف من الاستراتيجية الإيرانية، من حقه أيضا اتخاذ إجراءات لمواجهة هذه الخطر بالتوازن التسليحي.
المشكلة ليست في نوعية التكنولوجيا التي «شرّعت» الاتفاقية حصول الإيرانيين عليها، بقدر ما هي نيات الجمهورية الإسلامية. سيولة نقدية تصل إلى 150 مليار دولار ستتيح للمخابرات الإيرانية وجماعات العنف التابعة لها الإنفاق على نشاطات تخريبية تهدد الاستقرار والسلام في المنطقة كلها، التي لا يمكن لوم أهلها على السعي إلى التوازن نوويًا مع إيران.
اتفاق لا يضمن استقرارًا أو سلامًا.
عادل درويش