القيامة السورية أمام بوّابة جنيف

7

هناك حكاية كردية تتحدّث عن رجل رأى بأم عينيه كيف أكلت الذئاب حماره، وكان هو الشاهد الوحيد. وحينما عاد إلى القرية، بدأ يسأل من صادفهم عمّا إذا سمعوا بالحادثة، فكان جوابهم بالنفي، ما عزّز التفاؤل لدى المسكين، ودفع به إلى القول: إن شاء الله الخبر ليس صحيحاً.

ما ذكّرني بهذه الحكاية الطريفة ما نواجهه راهناً من مواقف تسلّمنا إلى المنطق الذي بنيت عليه، بغض النظر عن الوظيفة والسياق. فمنذ اليوم الأول للثورة السورية، نعاني السلبية المراوغة للمجتمع الدولي، والولايات المتحدة تحديداً في مواجهة ما تعرّض ويتعرّض له الشعب السوري من قتلٍ وتدميرٍ وتشريدٍ، كما نُقابل بسياسة التغافل عند إقدام النظام على استخدام كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً، وبتجاهل مريب لواقع إقدام النظام على فتح البلاد أمام الجيوش والميليشيات الأجنبية، لتشن حربها على السوريين.

ومن اللافت المعروف لدينا جميعاً، أن الإصرار الدولي على منع وصول مضادات الطيران إلى المقاتلين منعهم من حق الدفاع عن النفس في مواجهة طيران النظام، والطيران الروسي لاحقاً، وكان تفسير ذلك، وما زال، وجود رغبة في المحافظة على تفوق النظام الجوي منعاً لانهياره الذي كان سيحدث في 2012 لولا حصول النظام على كل أنواع الدعم من حلفائه، وحصولنا على الدعم الأقل من المقنّن من جانب حلفائنا. كما أن قصة الخط الأحمر الذي أعلنه الرئيس أوباما بخصوص الكيماوي، وتجاوزه له، باتت من الحكايات المكررة التي يعرفها القاصي والداني.

أما اللقاء المحبط بين وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري والمنسّق العام للهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب، فكان موضوع مناقشات ومداخلات متشائمة متوجّسة، حتى جاءت توضيحات السفير المسؤول عن الملف السوري في الخارجية الأميركية مايكل راتني، لتبيّن بأن ما حصل كان نتيجة سوء الترجمة، وأن الموقف الأميركي ما زال هو هو دعماً للمعارضة، وتشجيعاً على الاشتراك في جنيف لإحراج النظام وحلفائه. وذكرتنا هذه الرسالة بدورها بما قرأناه حول مراسلات حسين – مكماهون، بعد انكشاف أمر اتفاقية سايكس بيكو قبل قرن، وهي الاتفاقية التي رسمت ملامح المنطقة على مدى قرن كامل على الصورة التي تتناسب مقاساتها مع حسابات المستفيدين.

لكن الضغوط الترغيبية على الهيئة العليا للمفاوضات استمرت، ومن جميع الأطراف، بخاصة الوزير كيري. وهناك وعود بالعمل على تنفيذ البنود ذات العلاقة بالجانب الإنساني في القرارات الأممية، وهي وعود تشبه في نكهتها وطبيعتها تلك الوعود التي حصلنا عليها مراراً وتكراراً. مع ذلك اتخذت الهيئة العليا قرار التوجه إلى جنيف، والدخول في العملية التفاوضية التي لم نتهرّب منها يوماً قط، بل وجدنا فيها دائماً المدخل الوحيد لمعالجة القيامة السورية، والحد من تداعياتها على المستويين الوطني والإقليمي، بل حتى على المستوى الدولي نفسه.

مفاوضات جنيف ستنطلق، إن لم نقل إنها انطلقت، بقرار من الراعيين الأميركي والروسي. الأول منكفئ متردد منسحب، والثاني مندفع هائج جامح، يقاتل إلى جانب النظام بعلانية لا تشوبها شائبة، بعدما استمر على مدى خمس سنوات في تعزيزه بكل أنواع الدعم.

وفد النظام يستقوي بدعم حلفائه، وبأسطورة «داعش» التي أسهم مع غيره في فبركتها، وتسويقها، والاستفادة منها. أما وفد المعارضة فيستقوي بتضحيات السوريين والسوريات وقضيتهم العادلة، التي وضعت الجميع على المحك، وكشفت زيف المزاعم، وبينت مدى تهافت التشدق بحقوق الإنسان والأطفال والنساء والشيوخ في عالم المصالح المتوحشة.

التفاؤل مطلوب دائماً، ولكنه هنا لا يمتلك المقوّمات الأساسية التي كانت ستسبغ عليه، ولو قسطاً يسيراً، من المشروعية بالنسبة إلى مفاوضات جنيف في حلتها الجديدة، مقارنة بجنيف 2. فالمواقف الدولية تغيّرت، والمعادلات الإقليمية باتت أكثر تعقيداً، والوضع الميداني اكثر حساسية، بينما الموقف الأميركي أكثر سلبية وتراجعاً وانشغالاً.

لكن في المقابل، تمكّنت المعارضة من لملمة قواها إلى حدٍ ما بعد اجتماع الرياض، واستطاعت تشكيل هيئة عليا للمفاوضات تمثّل مختلف القوى السياسية والعسكرية، ومختلف المكوّنات المجتمعية السورية، وشكل كل ذلك رداً قوياً على أولئك الذين كانوا، وما زالوا، يراهنون على تفتيت المعارضة. ولعل هذا ما يفسر جانباً من حالة اللاتوزان التي تهيمن على هؤلاء، وتدفع بهم نحو أطروحات عصابية، يكشفون عبرها عن حقيقة دوافعهم، وماهية علاقتهم بأتباعهم.

لقد تردّدت المعارضة كثيراً قبل اتخاذ قرار التوجه إلى جنيف، لعدم ثقتها بالعملية التي لا توحي مقدماتها وآلياتها بإمكانية تحقق شيء إيجابي، يخفّف قسطاً من معاناة السوريين التي تستعصي على أي وصف. لكن القرار بالمشاركة اتخذ في نهاية المطاف بعد مداخلات ومناقشات بينية مطوّلة، وعلى أثر تقاطر الوعود الوردية التي تأتي عادة في اللحظات الحرجة لتتناثر لاحقاً، وتغدو كقوس قزح يخدع العيون من دون البطون.

أنظار السوريين جميعهم متوجهة نحو جنيف، على أمل إيجاد حلٍ واقعي مقبول للكارثة التي ألمت بهم، نتيجة الإرهاب المزدوج للنظام وللمتشددين.

الآمال ضعيفة جداً، لكن الغريق يتعلّق بقشة كما يُقال. وهذا ما يفسر جسامة المسؤولية الملقاة على عاتق الجميع في جنيف. السوريون سيكونون مادة للمفاوضات بكل أسف مع أن الموضوع يخص سورية وأجيالها المستقبلية القادمة. المجتمع الدولي هو الذي أوصل الوضع إلى ما هو عليه الآن، ومسؤولية هذا المجتمع أن يتحمّل وزر ما تسبّب به، ويتدخل بفاعلية لإنهاء محنة السوريين وعذاباتهم. الولايات المتحدة تتحمّل المسؤولية الأساس، لأنها القوة الأكبر القادرة على مساعدة السوريين إذا شاءت وأرادت. فهل سنشهد التزاماً بالوعود المقطوعة أميركياً كما يتمنى شعبنا؟ أم علينا أن نستعدّ لما هو أقسى وأسوأ وأكثر ايلاماً؟ هذا ما سيكشفه لنا الزمن القادم.

عبد الباسط سيدا

Leave A Reply

Your email address will not be published.