الخيط الوهمي بين آستانة وجنيف
سميرة المسالمة – المدن
تتابع وفود آستانة وجنيف، الخاصة بالمفاوضات السورية ـ السورية، سلسلة لقاءاتها المتزايدة طرداً مع استمرار المأساة السورية، رغم تضاؤل الأمل بحل سياسي قريب، وفي غياب أي بوادر لإنهاء الصراع على سورية، بعد انتقال الصراع من كونه صراعا سياسيا بين المعارضة والنظام، إلى صراع مسلح إحدى أدواته الأطراف السورية، فيما تديره وتتحكم بنتائجه قوى دولية وإقليمية، بإشراف مباشر وحضور واسع لقواتها على الأرض السورية.
كان من المفترض أن يؤدي مساري المباحثات في كل من جنيف وآستانة إلى نتيجة واحدة، وهي تضافر الجهود لوقف الاقتتال وتخفيف التصعيد العسكري حسب آستانة، ليتم الدفع قدماً لبحث الانتقال السياسي في مفاوضات جنيف، إلا أن ما حدث كان خلافاً لذلك، إذ أريد لمسار آستانة الالتفاف على المسار السياسي، وتصديره كأولوية يمكن الاكتفاء بها والتمحور حولها، ونقل التفاوض من الأطراف السورية إلى الدول المتصارعة على النفوذ مباشرة، وهو ما ظهر جليا في أستانة 5، إذ تم توقيع اتفاق المناطق منخفضة التوتر من قبل كل من إيران وروسيا وتركيا دون أي إشارة إلى الأطراف السورية، كشركاء في توقيع هذا الاتفاق.
فوق ذلك فقد تجاهلت الأطراف الموقعة اعتراضات وفد آستانة والهيئة العليا للتفاوض على اعتبار إيران شريكا في ضمان اتفاق المناطق الآمنة، التي حذرت من تحول هذه المناطق إلى مشروع لتقسيم لسوريا، مرتكزه تعميق نفوذ الدول الضامنة له، حيث يزيد ذلك من قدرة النظام على الهيمنة على مزيد من المساحات التي تقع ضمن “محميات” كل من روسيا وإيران، وهو الأمر الذي حصل فعلياً، بمواصلة النظام سياسة التهجير الديمغرافي والتوسع المسلح رغم تهليله لاتفاق خفض التوتر.
على الجانب الآخر لم تستطع قوى المعارضة ان تلزم الدول الصديقة لها بوقف مسار آستانة، أو حتى انتهاج سياسة الضغط لمنع زيادة خسائرها، وذهبت إلى جنيف 6 وهي تحمل وزر خسائر ثلاثة أحياء من دمشق، كانت تشكل حجر عثرة امام احكام النظام سيطرته على العاصمة ومحيطها القريب منها، ووسط اتهامات متبادلة عن دور الفصائل المشاركة بآستانة بهذه الاتفاقية، وتنصل الهيئة العليا للتفاوض من المشاركة بالموافقة عليها. وقد ظهر الخلاف الكبير للعيان بين ممثلي الفصائل وممثلي وفد الهيئة من السياسيين في خطوة تؤكد عدم قدرة هذه الهيئة على لعب الدور المنوط بها في إدارة العملية التفاوضية وإلزام الوفد بمرجعيتها، لتطفو أسئلة كثيرة على السطح منها:
من هي مرجعية وفد آستانة الذي يتقاطع في بعض أعضائه مع وفد جنيف، وكيف يمكن فهم العلاقة التي تربط بين مكونات الوفدين “آستانة” و”جنيف”؟
كيف تشكل وفد آستانة في غياب الهيئة العليا للتفاوض صاحبة المهمة الوحيدة ببيان انشائها وهي مهمة التفاوض؟
ماهي التفاهمات التي تتيح لوفد آستانة حرية اتخاذ القرارات المصيرية في حياة الثورة بينما تتعثر بذلك الشخصيات السياسية الممثلة في وفد جنيف؟
هل يمكن اعتبار ان روسيا وإيران، ومن الخلف النظام، نجحوا بحرف مفهوم الصراع من سياسي، بين معظم السوريين والنظام الحاكم الذي تغول على حقوق المواطنة وحول البلد إلى مجرد مزرعة، إلى مفهوم الصراع المسلح بين قوى تتنافس على إدارة مناطق ترزح تحت نفوذها، من جهة، وبين كل هؤلاء المتصارعين بجانب واحد مع ما سمي قوى الإرهاب في المنطقة؟
بداية لا بد من التوضيح ان الهيئة العليا للتفاوض كانت ناتج مؤتمر الرياض الذي عقد في ديسمبر2015 ودعيت له كيانات وشخصيات معارضة سياسية، وكذلك ممثلو الفصائل المسلحة الفاعلة في المعارك مع النظام، على انها تمثل قيادة الثورة السورية حسب وجهة نظر منظمي المؤتمر، المنعقد بدعم دولي من الدول المشاركة في مؤتمر فيينا 1، في حين تمت الدعوة لمؤتمر آستانة من قبل روسيا وتركيا وإيران، في غياب واضح للدور الأميركي والأوروبي، وتم اختيار وفد المعارضة لآستانة من قبل الدولة الضامنة تركيا، دون العودة للكيانات السياسية كالائتلاف، الذي يتخذ من اسطنبول مقرا له، أو الهيئة العليا للتفاوض الشريكة مع الفصائل المسلحة في عملية جنيف.
وفي الوقت الذي تتعامل فيه الهيئة العليا على أنها مرجعية أي تفاوض يجمع المعارضة مع النظام، يتجاهل وفد آستانة هذه المرجعية متابعاً عقد جولاته تحت اسم مباحثات تقنية تتعلق بالحرب على الإرهاب، ووقف اطلاق النار وآليات مراقبته، ليكون أخيراً شاهداً غير مسؤول على اتفاق المناطق منخفضة التوتر “الآمنة”، حسب التسمية الروسية، وهو الاتفاق الذي يمكنه ان يأخذ سوريا نحو التقسيم أو تقاسم نفوذها بين الدول الضامنة له.
ورغم عدم التشكيك بنوايا أعضاء وفد أستانة لوقف المقتلة السورية إلا أن هذا لا يقلل من مسؤوليتهم في إرباك مسار جنيف السياسي، على عكس ما يحاول المبعوث الأممي تصويره بأنه كان دافعاً لعقد جنيف 6، مما يعني أن السوريين كمعارضين أمام وفدين لمسارين مختلفين، أرادت روسيا ان يعطل أحدهما على الآخر، وبمرجعيات مختلفة، من شأنها ان تلبي المصلحة الدولية في استهلاك الوقت المطلوب حتى تكتمل الخطط الدولية والإقليمية في العملية التحاصصية.
ما كان لهذا الوضع، مع وفدين ومفاوضات لا نتائج منها، لولا أن الثورة السورية تعاني من فراغ كبير في القيادة، وغياب كيان سياسي جمعي للسوريين، ولولا إرتهان الجماعات المسلحة للخارج، ولولا هذا التواطؤ الدولي على ادامة الصراع السوري، من خلال اللافاعلية في إيجاد حل له بالوسائل السياسية وفق بيان جنيف1 أو بأية وسائل أخرى. وإلى حين حصول ذلك سنبقى أمام مسارات جنيف ومسارات استانة وربما مسارات أخرى..