الفئات الوسطى… أيّ مهمة الآن؟

10

احمد برقاوي – جيرون

أنتجت الفئات الوسطى، في بلاد الشام والعراق ومصر واليمنين، الجسمَ الأساس للحركات السياسية والمدنية في هذه البلدان، وإذا ما أدرجنا الجيشَ في عداد هذه الفئات، صرنا أقدر على فهم التحولات التاريخية ومآلاتها.

 

هذه الفئات التي تتكون، من جمهور المعلمين والمحامين والموظفين والمهندسين والأطباء والحرفيين وضباط الشرطة والجيش، هي الفئات الأكثر ثقافة وفاعلية ووعيًا في المجتمعات عمومًا. وقد شهدت هذه البلدان كلّها انقلابات عسكرية ناجحة -باستثناء الانقلاب الفاشل الذي قام به الناصريون، في سورية في 18 تموز/ يوليو 1963- وكانت جميع هذه الانقلابات تجد عصبيتها السياسية ومعارضتها من الفئات الوسطى، بل إن الأحزاب التي سندت أنظمة الحكم العسكرية كلها مكوّنةٌ من الفئات الوسطى، سواء تأسست قبل الاستيلاء على السلطة أو بعد ذلك.

 

مع تغوّل أنظمة الحكم العسكرية وفسادها وسرقتها للمال العام، وعدم اكتراثها بالتنمية، وتدميرها لمؤسسات المجتمع السياسي والمدني، انحدر الجزء الأكبر من الفئات الوسطى، وهي الميسورة تاريخيًا والمكتفية معاشيًا، إلى مستوى الفئات الفقيرة، فيما انتقل جزء صغير منها، بحكم الفساد، إلى طبقة الـ “كمبرادور”، وانتقل جزء من النخبة العسكرية والأمنية، بفعل النهب وتحطيم القيم، إلى مصاف الفئات الغنية.

 

مع استمرار سلطات الاستبداد التي جهزت كلّ ما من شأنه أن يدعم البقاء في السلطة منذ السبعينات، دمّر الطغاة ماهيّة المدن التاريخية المُصدّرة للثقافة والمدنية، كالقاهرة وبيروت وبغداد ودمشق وحلب وصنعاء، بعد أن دمروا الجزء الأكبر من الفئات الوسطى المدينية والريفية، وهي قلب المجتمع، واتسعت دائرة الفئات الرثة؛ فتحوّل الطغاة إلى زعامات على جمهور الرعاع وأغنياء الفساد، والـ “كمبرادورية” التي راكمت ثروتها وأودعتها خارج أوطانها، وراح جزء آخر يبحث عن خلاصه في الأيديولوجيا الدينية السياسية بما فيها العنفية، وحين هبت رياح التمرد واندراج العدد الأكبر من الفئات الوسطى احتجاجًا على انحدارها الطبقي، ودفاعًا عن الحرية والكرامة واستعادة مركزيتها، تجددت الطاقة الخلاقة للفئات الوسطى، خالقة الحضارة والمدنية والتجديد، لكنها وجدت نفسها، وهي المنتمية غالبًا إلى العصر والمدنية والتنوير، أمام قوتين رعاعيتين مدمرتين، هما السلطة والحركات الأصولية العنفية وجمهورهما الرعاعي، ولهذا فإن أمام الفئات الوسطى مهمة عسيرة عليها أن تنجزها في نهاية الأمر.

 

هي مهمة تتطلب إعادة النظر في الخطابات السياسية التي أنتجتها، إلى حد إقامة القطيعة مع أي توجه شمولي، واعتبار الدولة الديمقراطية-العلمانية هي المصير المطلوب تاريخًا للخروج من المأزق الذي قادتنا إليه سابقًا هذه الفئات؛ فقد آلت الحركات الشمولية عبر أنظمة الحكم إلى قوة مدمرة للمجتمع، والحركات الطائفية كحركات شمولية أدت إلى زيادة الخراب الوطني، ولنا في العراق درسٌ دلالي واضح وساطع.

 

‏ولعل سائلًا يسأل: لماذا يجب أن نضع الثقة مرة أخرى بالفئات الوسطى، على الرغم من التجربة المريرة التي قادتنا إليها في البلدان الآنفة الذكر؟

 

لأن الفئات الوسطى -بوصفها فئات متجددة في كل المراحل- تظلّ عقل المجتمع الذي يفكر، وقلبه الذي يضخ الدماء للثقافة والسياسية، فضلًا عن أنها الخزان الأساسي للمجتمع المدني وللمجتمع السياسي، وغياب الفئات الوسطى عن الفعل المدني والسياسي يترك حزام الفاشية الرعاعي نهبًا للقوى النكوصية كما نرى اليوم.

 

بعد أن أظهرت الثورات السلمية العربية خطرَ الجيش المسيّس بوصفه جيش سلطة، ذا عصبية زائفة، غالبًا ما تكون عصبيةً لحاكمه أو عصبية طائفية أو مناطقية، وأظهرت أيضًا خطر الميليشيات المسلحة التي نشأت؛ بفعل هشاشة الجيوش الطائفية والمناطقية والقبلية والسلطوية، فإن التعويل الآن هو على الفئات الوسطى المدنية والبرجوازية في خلق الحياة السياسية، وقيام الدولة المعاصرة بوصفها دولة عقد وطني وعقد اجتماعي.

 

غير أن هذا الأمر لن يتحقق من دون نخبة مهجوسة بالهمّ الوطني وزاهدة بالغنيمة، بل متحررة من عقل الغنيمة، متجاوزة عصبية الوسخ التاريخي وانحطاطه الأخلاقي.

Leave A Reply

Your email address will not be published.