من هم قتلة السياسة حقاً!
يُراد للتنظيمات التي تسمي نفسها بالجهادية أن تحل مكان الأحزاب السياسية، أن ترث منها أدوراها العملية شكلياً مع تغيير جذري لمضامينها من حيث المنطلقات الفكرية كما الأهداف العامة. فما يعنيه التنظيم الجهادي هو اعداد الملتزمين به لخوض معارك الصراع المباشر حتى بوسائل العنف والقتال المادي الصرف. بل إن مصطلح الجهاد هو كناية عن صراع الوجود أو اللاوجود ضد الآخر، المصنف في خانة (الكاثر) والعدو. فالمجاهدة هي نوع من إعلان حرب دائمة. فكان سهلاً على كل تنظيم جهادي يبدأ مبدئياً ليصل إلى الإنتظام العسكري. هذا واقع الحال بالنسبة لمعظم التشكيلات الجهادية الناشطة في ميادين العنف الشعبوي المفتوحة تحت تسميات الثورات وأشباهها في عالمنا العربي. إنها ميليشيات معسكرة، ونشاطها قتالي بمعنى الكلمة، وأما ما يتبقى لأفرادها من حياتها المدنية فهي مجرد هوامش فردية وشخصية ولا فاعلية لها إلا في إعداد النموذج الجهادي لصاحبها.
طغيان الظاهرة الجهادية مقابل انسحاب المؤسسة الحزبية من الحياة العامة لم يكن ذلك فحسب نتاجاً وعلة أيضاً لانحراف بعض ثورات الربيع نحو الاستنفاع والاقتتالات الفئوية فيما بينها، بل هو من عقابيل الثمن الفادح الذي يدفعه المجتمع من عنفوانه وكرامته الحضارية مقابل عجزه المتمادي عن كبح مركّب الاستبداد/الفساد القابض على عنق الدولة الفاشلة. فالقمع المطلق طرد السياسة المدنية من شوارع المدينة وأنديتها وجامعاتها. فكان مقابل ذلك أن تمادى زحف المؤسسة الدينية الطقسية وراحت أشباحها السوداء تغطي منافذ الهواء الحر في كل مكان؛ فقدت أفكار العدالة والمساواة، الحرية والكرامة. قدرتها على إقناع أصحاب البطون الخاوية والعقول التائهة، في الوقت الذي كانت دولة القمع والنهب تجتثّ شعلة الصمود من كل ذات نفس أبية. لم يكن سلطان الفساد قادراً على شراء ذمم الناس جميعاً. غير أن وكالات التدين المفتوحة الأبواب في كل محفل عام أو خاص كان يمكنها أن تبيع حصصاً من فراديس العالم الأعلى مقابل التضحيات بأجساد فانية زائلة.
كان حرمان المجتمعات العربية من السياسة هو القاسم المشترك الأعظم لما اعتبر من قدس أقداس مصطلح الأمن القومي في الدولة العربية الناشئة؛ أما معناه الفعلي فهو الأمن السلطويك أما الخطر الذي يفترضه هذا الأمن السلطوي، فهو لا يأتيه إلا ممن افترضه دائماً أنه هو عدوه. إنه الآخر، القطب المحكوم، الشعب، الذي لا حول له إلا الخضوع والتسبيح بحمد أسياده الحكام.
خلال عمر الاستقلال الوطني أي منذ أكثر من نصف قرن، عرف هذا الشعب أسماء أنظمة الحكم كلها التقليدية والعصرية، لكنها في جملتها كانت نظاماً «واحداً» يستوحي كل نشاطه من أولوية الأمن السلطوي. وفي هذا السياق لم تكن الدولة العربية الناشئة تتطور إلا في الاتجاهات المعاكسة غالباً لمعظم الآمال المعقودة عليها منذ البداية لدى جيل الاستقلال الأول. حتى انتهى خطر هذا التطور المعاكس إلى وقوع القواعد الشعبية الواسعة بين فكّي خياريْن كلّ منهما أسوأ من الآخر. فإما أن تلتحق نخب قليلة بمؤسسة السلطة أو يغرق أفرادها في صراعات النفوذ والتنافس النفعي ما بين أقطابها. وإما أن تلتحق كتل القواعد الكبيرة بعصائب الأقطاب الدينية. أما السياسة فكانت هي التسمية المطاردة التي لا يأويها حزب أو نظام لمرحلة، حتى (يتحرر؟) منها. فهل يمكننا أخيراً أن نجد الجواب على سؤال: لماذا كانت السياسة مطرودة أو مطاردة من الدولة العربية ومجتمعها معها.
هكذا عطلت دولة الطغيان كل أسباب التطور الطبيعي للقوى الاجتماعية، فلم يكن أمام هذه القوى من سُبل للتقدم أو تحقيق الذات إلا باتباع أساليب التخلف المعتادة عينها. كأن الفساد هو الموزع الوحيد لفرص النجاح النادرة، بينما تتضاعف شروط الحرمان والعوز والقهر لدى الأغلبيات الساحقة، ونجد خلال الأجواء تنشط وكالات التدين المبثوثة في كل مكان في استقطاب البيئات الراكدة، وتحويلها تدريجياً إلى بؤر منصاعة للتوجيهات الغيبية وشبه السحرية. كأن خلق عوالم مثالية سماوية تعوّض عن مظالم الواقع وفساده، بما يزيد في عزلة الشباب عن واقعهم البائس، فقد اتقنت أجهزة الدعوات المبشرة بالجهاديات صناعة غسل العقول الفتية، وحشو فراغها بأساطير القرون الأولى.
حينما انطلقت ثورات الربيع، كانت الجماهير المتحركة باحثة عن قيادات ميدانية، فكانت شبكيات الجهاديين جاهزة لتسلّم الدَفَق الجماهيري، وإعادة تعبئته وراء صفوفها، في حين كان غياب الأحزاب المدنية السابقة على الثورة من الساحات العامة مؤشراً واضحاً على انقضاء مرحلتها نفسها فكرياً وتاريخياً، لكن غياب من أمسى في عداد الماضي لم يكن يحتم توريث المتدينين إجمالاً والجهاديين منهم خصوصاً، فكان هؤلاء قد اغتصبوا تلك اللحظة التاريخية، واحتكروها لحسابهم وحدهم دون الآخرين جميعاً، كما لو أن هذه اللحظة نفسها قد جرى تحريفها سريعاً من كوتها آتيةً بالثورة الشعبية الشاملة، إلى كونها غارقةً في بحر من فوضى دموية عارمة.
إن تغييب السياسة من الحياة العامة يرجع بمجتمعها إلى ما قبل تكوينه المدني، حيثما تسود الروابط ومشتقاتها القرابية (العائلية) وأطرافها وحواشيها. وفيها تهبط مؤسسة الدين من مستوى الرعاية الأخلاقية للجماعات والأفراد إلى مستويات التكوينات العُصابية المغلقة على عقائد غنوصية (شعائر وتأويلات شبه خرافية لبعض النصوص القدسية) لهذا تتعدد فضائلها مع تزايد التطلعات إلى مراكز (المريدين) أو الدعاة، مع التزوّد بتأويلات تراثية أخرى مختلفة في مجملها، غير أن ثقافة العنف في الاعتقاد والسلوك والمواقف هي الثقافات المشتركة لمختلف هذه التصنيفات في أوسع مروحة من الجهاديات عابرة للمناطق والحدود، وإن هذا العنف المعمم سلوكياً هو الرأسمال الأولى للانقلاب نحو الانتظام العسكري، فمن هو الجهادي، لا بد أن يكون كذلك هو المقاتل راهنياً، ولو بعد حين، فكيف لا تغيب المدنيات إذن من عالم أمسى تغطيه اللحى والبنادق فحسب.
ومع ذلك، هذه اللوحة المشؤومة ليست عذراً لاستراتيجية هؤلاء، غربيةً كانت أو شرقية أحياناً، لا ترى في الإرهاب إلا ظاهرة دينية خالصة، مسؤولٌ عنها هو الإسلام. خلال هذا الادعاء يتم تنحية واقع عربي وعالمي معاً من جغرافية النظرة العلمية المنزهة عن الأقطار المسبقة، فمن صنع هذا الكم الهائل من دمويات العصر الجهادي الراهن، أليست هي هذه الاستراتيجية نفسها، المتجاهلة لكل الأسباب الواقعية ليس لظاهرة التطرف الديني أو إرهابه عربياً وإسلامياً وحده. بل إنها العلة الأصلية المسكوت عنها وهي في عقر دارها ـ أي دولياً. إنها اضمحلالُ السياسة حتى في وطنها الأم، فهذا الغرب العظيم نفسه، منذ أن سلَّم الغرب مفاتيحَ مستقبله كلها إلى يد التكنولوجيا وحدها كأنه حكم على فكره السياسي أن يتنازل عن مقعد القيادة ويشتغل مساعداً تابعاً لجبروتها، فإذا كانت الآلة هي القائمة بوظيفة المهندس المخطط والصانع البارع والناجح في وقت واحد في عصر الحداثة الغربية الأخيرة، فلن يتبقى في يد سادة الاستعمار السابقين من آلة إلا السلاح الأبيض أو البندقية لكي تصبح هي الوكيلة الأولى لسلطة إمبراطورية التكنولوجيا.
إذن لقد اتفق الغرب والشرق (الإسلامي) معاً على دفن السياسة معاً، والتعليق على قبرها شهادة حضارة واحدة، كُتب فيها: هنا عاشت وماتت السياسة بعد واحد وعشرين قرناً..
مطاع صفدي