المعارضة السورية وخوفها من الحقيقة
سميرة المسالمة
يقيّم وفد المعارضة السورية أداءه في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، التي لم تحدث أصلاً، وفقاً لمعايير خاصّة به، إذ يعلن نجاحه، وفق بيان له، في تحليه بالمرونة والانسجام والفاعلية، وفي الترحيب والاهتمام الدوليين به، والذي انعكس بلقاءات واتصالات مع مسؤولين عرب وغربيين، ودعوات لرئيسه إلى زيارة عدد من دول المنطقة والعالم. ورغم أهمية النظرة الإيجابية التي يسبغها الوفد على ذاته، إلا أن الوضع يتطلب طرح بعض الأسئلة المنطقية، على ضوء هذا التقييم. فمثلاً، ما هو فهم المعارضة، التي يمثلها هذا الوفد، للعملية التفاوضية؟ وهل يتمثل النجاح بالذهاب إلى المفاوضات فقط من دون النظر إلى الأهداف المحددة لكل جولة، والتي يفترض على أساسها أن يتم الإعلان عن جولات لاحقة؟ وهل الوفدان المعنيان بالصراع، أي النظام والمعارضة، يملكان مفاتيح الحل حقاً، أو هل المعارضة، على الأقل، تملك من أوراق القوة والضغط ما يمكّنها من فرض الحل الذي تريده ولو بالحدود الدنيا؟ وأخيراً هل العملية التفاوضية هي مجرد إجراء شكلي، أي لتحقيق صورة إعلامية، حتى مع غياب الوفد المقابل؟ أو هل يكفي ذلك لإعلان الوصول إلى نتائج ترفع معنويات من يحضره، وتجعله يعتبر أداءه أفضل من غيره أو أنه أدى مهمته وأن كل شيء على ما يرام؟
وبعيداً من عقلية التشكيك والاتهام وربما التخوين أحياناً، التي باتت تسود الشارع السوري المعارض، بسبب انضمام أطراف متباينة في رؤيتها للحل السوري إلى وفد التفاوض في جنيف، فإننا إزاء أسئلة حول مجمل الجولات وليس آخرها فقط، منها:
– لماذا تأخذ الدعوة الأممية للمعارضة شكل الإلزام، بينما هي عملية اختيارية غير ملزمة لوفد النظام، الذي لم يف بأي من بنود قرار مجلس الأمن 2254، بل ولا حتى القرار القاضي بإنهاء ترسانته الكيماوية، بعد أن تبين استخدامه إياها أكثر من مرة بعد صدور القرار 2118 (2013)، وبما يشمل عدم الالتزام بإطلاق سراح المعتقلين وتمكين قوافل المساعدات الإنسانية من الوصول إلى المناطق المحاصرة؟ وهنا لا تكفي الإجابة بأن المعارضة تريد أن تأخذ دور الطرف الحريص على الحل السياسي الذي يجري اقراره في المسار التفاوضي في جنيف، لأن ذلك يتطلب وجود «الشريك» المتفاعل، أو الحريص، في العملية التفاوضية، كما يتطلب أن تكون موازين القوى الدافعة للطرفين متساوية، ولو نسبيا، لتنتج عن ذلك عملية تفاوضية حقيقية تصيغ حلاً عادلاً، وهو غير متوفر.
– ما هي أدوات المعارضة أصلاً لفرض عملية تفاوضية داخل أروقة جنيف، دون سواها، في ظل غياب قوة مناسبة تساندها، وتعادل القوة الروسية التي تساند النظام السوري، ومعها إيران وميلشياتها، التي تزداد على حساب تناقص أصدقاء المعارضة، ما يبرر للنظام استمراءه في تعطيل مسار جنيف، منذ الجولة الثانية وحتى الثامنة، وربما يستمر الأمر لاحقاً.
– ما هو المقصود ببيان الوفد المعارض، عن نتائج الجولة الثامنة، بأن الأطراف الدولية والوسيط الدولي لم يكونوا مستعدين لتوحيد المعارضة وفدها وتقديمها هذه «المرونة»؟ فهل يحتاج الحديث مع الوسيط الدولي إلى مرونة أكثر من تبني معظم نقاطه الـ 12 في بيان المعارضة؟ وهل الأطراف الدولية التي فرضت على المعارضة توحيد وفدها لا تزال تريد المزيد من المرونة، مقابل عجزها هي عن إلزام النظام بتنفيذ القرارات الأممية ومنها القرار 2254، الذي جاء بناء على رغبة داعمتيه روسيا وإيران أساساً؟
– هل حقاً هناك مجال للمقارنة بين السيئ والأسوأ في مسار الجولات الثماني التي حدثت دون الوصول إلى أي عملية تفاوضية يمكن البناء عليها؟
– لماذا تستمر المعارضة في القفز فوق الواقع والتملّص من مناقشة القضايا الجوهرية بين بعضها بعضاً، قبل أن تستمر في جولات كمسلسلات مكسيكية تحت مسمى تفاوضية؟
على ذلك من المفيد التذكير أن القضيتين غير المتفق عليهما بين المعارضة داخل الوفد الموحد هما المختلف عليهما مع وفد النظام: قضية مصير الأسد، والقضية الكردية، وكل طرف داخل الوفد يرى أن مناقشة هاتين القضيتين الخلافيتين مبعث تفريق، لذلك يتم تجاوز نقاشهما من مبدأ دفع المشكلة إلى لحظة حسم بعوامل غير ذاتية. فمصير الأسد تراه منصة موسكو شرطاً يفشل التفاوض، وهو وجهة نظر غير ملزمة لأعضاء من الوفد الواحد، بينما يراه النظام شرطاً مرفوضاً من شأنه أن يبقي مسار جنيف في حالة ركود، ومقتصراً على مشاورات ولقاءات بين كل من الوفدين مع الوسيط الدولي الحالي واللاحق أيضاً.
وفي الوقت الذي حسم النظام موقفه من القضية الكردية، بصورة سلبية، سواء في تسمية الجمهورية العربية السورية، أو عدم الاعتراف بالحقوق القومية لأي مكون سوري ومنهم الكرد، استمرت المعارضة بتجاهل نقاش الأمر في شكل جدي، فالمجلس الكردي يطالب بدولة كونفدرالية، وهو ما تضمنته وثيقتهم الموقعة مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة عام 2013، وهي الوثيقة التي تؤكد أن الائتلاف سبق الرئيس الروسي بوتين بتقسيم الشعب السوري إلى شعوب ومنها الشعب الكردي، واختار الوفد أيضاً الاستمرار بتجاهل المناقشة الفعالة للوصول إلى تسوية يمكن أن تقنع الكرد بمشروع وطني متكامل، يضمن الحفاظ على حقوقهم، في دولة مواطنين ديموقراطية تعددية، ما يعني استمرار التعاطي بتأجيل الأولويات بدل حلها، قبل أن نصل إلى ما سبق من انقسامات وانسحابات، تؤكد أن وحدة الوفد قابلة للتصدع، وحدث ذلك فعلياً في نهاية الجولة الخامسة التي عقدت في آذار (مارس) 2017.
هكذا تستمر المعارضة في محاولة تقديم نفسها كشريك متناغم في عملية تفاوضية أقرتها الأمم المتحدة، على رغم أن التجربة أثبتت أن هذه المرونة ليست كافية لإقناع النظام بالجلوس إلى طاولة التفاوض المباشر معها، وهي طالما بدأت بالتفاخر بها فالمطلوب منها الاستمرار، حتى إعلان النظام موافقته عليها، وهو لن يفعل ذلك قبل اقتلاع آخر أظافر الرافضين بقاءه في السلطة. وكل ذلك يفيد بأن خيارات المعارضة اليوم تضيق أكثر وأكثر، مع غضب الشارع السوري المعارض حيال هذه «المرونة»، التي قد تؤدي بالوفد أو بعض مكوناته إلى التعاطي مع مؤتمر سوتشي، الذي تدعو إليه موسكو كأحد صور المرونة المطلوبة منه دولياً.
هذا هو المشهد السوري اليوم الذي رسمته روسيا بجهد واضح، خلال السنوات الثلاث الماضية منذ بدء تدخّلها العسكري رسمياً في الصراع السوري، إذ تنتقل الصورة من نظام مسلوب الإرادة السيادية على أرضه، إلى معارضة منقسمة على ذاتها بين مفاوضات جنيف وآستانة وسوتشي القادم، وفاقدة أوراق القوة، ومع وفد موحد لا يحمل أي مشروع موحد وواضح يدافع عنه، مروراً بوفود متغيّرة في مسار آستانة، تحمل أجندة من يصدر قرار تشكيلها، ما يجعل قرار المعارضة المعترف بها أممياً (وفد الهيئة العليا للتفاوض)، بمقدار صعوبته، إلا أن من شأنه أن يضيف إلى المشهد السوري مزيداً من التحديات والتعقيدات. ولعل هذا من شأنه أن يحض المعارضة على مراجعة طريقها، وإعادة تشكيل بناها، واستعادة استقلالية قرارها، عبر مؤتمر وطني غير مرتهن النتائج والمرجعيات، يستند الوفد إليه في قبول أو رفض أي عملية تفاوضية، كما يسترشد بمخرجاته في المفاوضات، سواء في جنيف أو غيرها من المدن.
وللتذكير فإن مشاركة بعض أفراد الوفد في أي مؤتمر تساوي مشاركة الوفد بكامل أعضائه، باعتبار أن النتيجة النهائية ستكون ملزمة بنتائجها للجميع، في أي مسار آخر من آستانة إلى جنيف، لذا فلدى الوفد المعارض فرصة لاختبار وحدته، ليس في الشكل، كما حدث خلال تجربته في الجولة الثامنة، ولكن في المضمون هذه المرة، وعندها يمكن للمعارضة أن تعلن هزيمة خوفها من الحقيقة المؤجلة