حقائق وتساؤلات حول الأحداث في إيران
أكرم البني
تباهى أصحاب العقل التآمري بالقول إن الاحتجاجات الشعبية في إيران لم تفاجئهم، بل كانوا يتوقعون حدوثها، مرة أولى، استناداً لما يعتبرونه مخططاً خارجياً تنفذه أيادٍ ترتبط بالصهيونية والشيطان الأميركي الأكبر للنيل من الجمهورية الإسلامية وما حققته من «انتصارات» على صعيد نفوذها الإقليمي، ومرة ثانية، خضوعاً لأوهام وتقديرات سطحية عن سلطة دينية مطلقة القوة والجبروت، يبدو الخروج عنها برأيهم، أشبه بمسرحية مرسومة الأدوار، إن في سياق تنافس مؤسساتها على النفوذ والهيمنة، وإن لامتصاص الاحتقانات الداخلية المتصاعدة وتفكيك ما يخطط له الناشطون المعارضون، ودليلهم أن تجمع مدينة مشهد الذي شكل شرارة الانطلاق للاحتجاج على الفساد والغلاء كان مقرراً مسبقاً من قبل جماعات محسوبة على النظام، في إطار حملة يقودها التيار الشعبوي المتشدد لإضعاف موقع الرئيس روحاني!
صحيح أن إيران راكمت الكثير من العداوات وباتت أشبه بدولة منبوذة ومرفوضة جراء تجاوزاتها وسياستها التدخلية النشطة في المنطقة وتطاولها على مصالح الآخرين وحقوقهم، وصحيح أن ثمة صراعاً، غرضه تمكين السيطرة بين مراكز قوى النظام الإيراني، يغدو أحياناً جدياً ودموياً كما حصل إبان الثورة الخضراء عام 2009، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة دوافع وأسبابا داخلية عميقة ما فتئت تحض الناس على التحرك والتظاهر والتمرد، بدءاً بالتردي غير المسبوق للأوضاع الإنسانية والمعيشية وارتفاع نسب التضخم والبطالة وأعداد الإيرانيين الذين باتوا يعيشون تحت خط الفقر، مروراً باتساع ظواهر الظلم السياسي والقهر الثقافي، وأيضاً فشل الحكومات المتعاقبة في محاصرة فساد مستشرٍ وفي تقديم إجابات شافية عن أسئلة تثار اليوم حول الفئات المستفيدة من الأموال المحررة بعد توقيع الاتفاق النووي، ولماذا لم ينعكس تخفيف العقوبات الاقتصادية على الحياة اليومية للبشر! وانتهاءً بتنامي امتعاض الإيرانيين وقلقهم من تواتر وصول جثامين أبنائهم الذين قضوا في حروب سورية والعراق واليمن، ما يفسر الحضور القوي لشعاري، «إيران أولاً»، ثم «لا غزة ولا سورية ولا لبنان، روحي فداء لإيران»، إلى جانب الشعارات المطلبية المتعلقة بمحاربة الفساد وتحسين الأوضاع المعيشية.
والأهم، ألا يصح ربط تلك التطورات بمتلازمة عانت منها العديد من الأنظمة ذات النزعات التوسعية أو الإمبراطورية، وهي متلازمة الاستهتار بالبنية الداخلية ومشكلاتها لقاء تعزيز النفوذ الخارجي؟ ألم يعان الاتحاد السوفياتي منها وقد امتص عافيته وطاقته سباق التسلح والصراع على مناطق النفوذ في العالم ما أفضى إلى انهياره السريع؟ أولا يصح النظر من القناة ذاتها إلى الأزمة التي لا تزال تعتمل داخل الولايات المتحدة الأميركية، نتيجة حروبها الاستباقية في العراق وأفغانستان؟ وأيضاً، ألا يصح القول إن حكومة طهران تسير على المنوال ذاته، نتيجة توظيف قدراتها التنموية في معارك التنافس على الهيمنة الإقليمية تاركة شعبها يئن تحت وطأة العوز والحاجة، فكيف الحال وهي الأفقر اقتصادياً والأقل قدرة على التجدد سياسياً؟ ثم إلى متى قد يصمت الإيرانيون عن سياسة «تصدير الثورة» وهي تمتص عافيتهم وكفاءاتهم وتفاقم مشكلاتهم ومعاناتهم؟ وهل ثمة أوضح من تحذير نواب في البرلمان الإيراني من أن الدولة والمجتمع لا يستطيعان تحمل تكاليف مغامرات التدخل الخارجي، وأن الشعب الإيراني لن يقبل أن يعود أبناؤه في أكفان قتلى دفاعاً عن أنظمة أخرى، حتى لو تم تبرير ذلك بأنه دفاع عن أمن الجمهورية الإسلامية؟!
المشكلة أن النظام في إيران لا يزال يعيش على الفهم التقليدي للقوة ببعدها العسكري والأمني، وليس بصفتها تضافر جملة من العوامل والارتباطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية، الأمر الذي أفقده القدرة على صياغة خطة موضوعية متكاملة للنهوض بمجتمعه وللتعاطي الإيجابي والمثمر مع بلدان المنطقة والعالم، وزاد الطين بلة إصرار النخبة الحاكمة، كلما احتدمت أزمتها، على الهروب إلى الأمام والسعي، بدلاً من البحث الجدي عن مخارج حقيقية لما هي فيه، نحو استجرار مغامرة تلو المغامرة متوهمة القدرة على معالجة أزمتها بمزيد من توسيع السيطرة الخارجية عسكرياً، تحدوها تعبئة مذهبية بغيضة وتطلع لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، ربما لأنها لا تعرف السباحة خارج هذه المياه أو لأن ما تقوم به لم يعد خياراً بل نهجاً إجبارياً لقاء استمرارها في السلطة وحماية امتيازاتها.
لكن، إن عاشت الإمبراطوريات في الماضي عشرات وأحياناً مئات السنين، فإن عمرها اليوم بات قصيراً وربما قصيراً جداً في ظل المتغيرات النوعية التي حدثت عالمياً وتنامي وعي الشعوب لحقوقها وتقدم حدة المنافسة على الهيمنة مع تطور مذهل للتكنولوجيا العسكري ولثورة الاتصالات، والأهم في ظل الأثمان الباهظة بشرياً ومادياً، لتكلفة تحقيق النفوذ والانتصار، فكيف بتكلفة البقاء والحفاظ على الوضع الجديد، ناهيكم عن تكلفة فقدانه.
والحال، ربما لن تتمكن التحركات الشعبية في إيران من إحداث فارقاً نوعياً يبشر بتغيير الوضع القائم أو على الأقل يشغل السلطة ويحد من تدخلاتها الخارجي، وربما يتمكن نظام الاستبداد بوسائله القمعية المجربة وعنفه العاري من محاصرتها وإجهاض فرص تطورها، لكنه لن يستطيع إزالة ما تخلفه من آثار، بداية بهتك وهز صورة سلطة تدعي الانتصار والجبروت، ثم بتعميق التحولات والانقسامات في المجتمع الإيراني وتشجيع تبلور كتلة اجتماعية وتيار ثقافي وسياسي، تجمعهما مواجهة مستمرة ضد الاستبداد والفساد والحرمان والتهميش والتمييز؟.
واستدراكاً، ألا تصح قراءة الاحتجاجات الشعبية في إيران من زاوية مفاقمة أزمة الإسلام السياسي، ما يؤكد، من جديد، عجزه عن حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وتالياً حقيقة إخفاق أنظمة الحكم الشمولي وفشلها في قيادة المجتمع وإنجاز برامجه التنموية؟ والأهم من زاوية تغذية الأمل لدى مجتمعاتنا العربية باقتراب موعد الخلاص من الفوضى والعنف والشحن المذهبي ربطاً بالتدخل العضوي متعدد الوجوه لحكومة طهران وأدواتها في شؤوننا، ودورها في ما وصلنا إليه؟!