مأزق الأكراد السوريين مع «حزبهم القائد»
رستم محمود – الحياة
انهارت كل مقومات سلطة الإدارة الذاتيّة الكرديّة السورية في إقليم عفرين، مع احتلال الجيش التركي والميليشيات السوريّة الرديفة له تلك المنطقة. تفككت الأجهزة الأمنيّة والوحدات العسكريّة والمؤسسات الخدميّة والتعليميّة وتحطمت دورة الحياة الاقتصاديّة. تشرد مئات الآلاف من السكان ودمرت بيوتهم، وصارت مناطقهم مهددة بتغيير ديموغرافي شبه حتمي. لكنْ، مع كل ذلك، فإن الإدارة الذاتيّة الكرديّة، بنخبها وحزبها القائد، «الاتحاد الديموقراطي الكردي»، بقيت محافظة على ترسانة الخطابات والشعارات الأيديولوجيّة الرعناء، المتمركزة حول إنكار الواقع واختلاق وقائع بديلة متخيلة.
بعد أقل من أسبوع على تلك الهزيمة في عفرين، بدأت الأجهزة الأمنيّة الرديفة لهذه المنظومة باعتقال المزيد من الشخصيات السياسيّة والمدنيّة الكردية في منطقة نفوذها الأخرى، شرق نهر الفرات، والحملة طالت حتى قياديين في الحركة السياسيّة الكرديّة. ثم أردفت نهجها الأمني بحملة تخوين وتهديد لكامل طيف الفاعلين السياسيين والناشطين المدنيين الكرد السوريين، من الذين لا يوافقون هذا الحزب سياساته وخياراته المتهورة، وهي وصلت إلى درجة التهديد بالتصفية المباشرة، من قِبل التنظيمات الرديفة لهذا الحزب، الشبيهة بعصابات «القمصان السود» التابعة لـ «حزب الله» اللبناني.
قبل ذلك بأيام قليلة، كانت هذه الإدارة قد سلمت العشرات من السجناء السياسيين الذين كانت تعتقلهم في منطقة عفرين إلى أجهزة النظام السوري. وقد يستغرب المتابع: كيف لهذه المنظومة التي انهارت بين ليلة وضحاها، وانسحبت من منطقة عفرين التي وعدت بالدفاع عنها «حتى آخر قطرة دم»، أن تترك وتتخلى عن كل شيء، بما في ذلك آلاف المدنيين ومخازن الأسلحة؟ لكن، أن تصر على أخذ السجناء السياسيين، من الكرد وغير الكرد، وأن تسلمهم إلى أجهزة النظام السوري الوحشية، وهو النظام الذي لم يفِ بأي من وعوده بالدفاع عن ذلك الحزب وسلطة حكمه.
دائرة شقاء الكرد السوريين لم ولا تكتمل إلا بما فعله وسيفعله «المحتلون الجدد» في منطقتهم. فالعشرات من عصابات النهب العام المنظّمة، الشريكة لفصائل المعارضة السوريّة الرديفة للجيش التركي، اجتاحت قراهم ومدنهم، وشرعت في «تعفيش» كل ما تمكنت منه من ممتلكات المدنيين، ومارست عمليات ثأر واسعة النطاق بحق النشطاء والفاعلين السياسيين الكرد. فوق ذلك، لم تسمح لمئات الآلاف من المهجّرين الكرد بالعودة إلى مدنهم وقراهم، واستقدمت بدلاً عنهم مهجّرين سوريين (عرب) من مختلف المناطق، وفق ما ذكرت تقارير موثقة للمنظمات الدولية. كذلك، حظّر المحتلون الجدد ممارسة اللغة الكرديّة في العمليّة التعليميّة والحياة العامة، حتى أنهم أزالوا كافة اللوحات والإشارات التي كانت باللغتين الكرديّة والعربيّة واستبدلوها بأخرى تركيّة وعربيّة فحسب!، ولم يسمحوا للأحزاب الكرديّة (الحليفة للائتلاف الوطني السوري المعارض) بأن تؤدي دورها «الطبيعي» في إدارة الحياة المدنيّة والخدميّة في منطقة يعتبرون فيها القوى السياسيّة الأكثر تعبيراً عن تطلعات السكان المحليين، فشكلت قوة الاحتلال الجديد مجلساً مدنياً يأتمر بما يطلب منه من سلطة الأمر الواقع.
مئات الآلاف من الكرد السوريين، سواء من الباقين في البلاد أو المهجرين والنازحين في دول الجوار، يقفون عاجزين أمام هذا المأزق التراجيدي. فهم مخيرون بين شكلين من «المحق»:
– بين تيار سياسي تسلّطي للغايّة، متخم بشعارات وتطلعات هوائيّة ومغرورة بذاتها وأوهامها حول انتمائها إلى الحداثة الإنسانية، ويدعي عنوة تمثيله للكرد السوريين وقضيتهم الديموقراطيّة، فارضاً عليهم تبعيّة رعناء لكرد تركيا وتبعات مسألتهم القوميّة في مواجهة الفاشيّة القوميّة التركيّة، علماً بأنه ليس في وسع كرد سورية، بحجمهم الديموغرافي المتواضع ومناطقهم الجغرافية المركّبة من خليط سكاني معقد، أن يدفعوا أثمان قضيّة كرد تركيا، على رغم عدالتها المطلقة، وأن يكونوا وقوداً لها.
– وبين الخضوع للاحتلال التركي وهيمنة فصائل المعارضة المشربة بكل تبعات الهزيمة والثأرية التي تسربت إلى دواخلها طوال السنوات الماضية، والتي تراكبت مع الاستراتيجية التركية المعادية للتطلعات القوميّة الكرديّة، في أية منطقة كانت.
كان للأكراد السوريين مسألة قوميّة واضحة المعالم من قبل، تحرز قبولاً من القوى السياسيّة والثقافيّة والمجتمعيّة السوريّة، وتسعى إلى إحراز أشكالٍ من الحكم المحلي والمساواة في الدستور والقوانين ومؤسسات الدولة وباقي منصات المتن العام بين الجماعتين العربيّة والكرديّة في سورية، وكان ذلك بروح توافقيّة وتكامليّة مع باقي القوى الديموقراطية السورية. انقلب كل ذلك، وغدت المسألة الكردية في سورية، ومعها كامل الوجود الكردي، وبسبب طبيعة وسياسات هذا الحزب الكردي، عاملاً مشاركاً في الصراعات الإقليميّة والدوليّة العسكريّة، بشكل يتجاوز كل مصلحة أو قدرة للكرد السوريين.
كانت مطالب وخيارات الحركة القوميّة الكرديّة قبل تسلط هذا «الحزب القائد» على الكرد خجولة ومتواضعة، على رغم عمق المأساة الكردية، لكنها كانت مطالب وخيارات متوائمة مع حجم وقدرات الكرد السوريين، وحريصة على الحفاظ على الكرد السوريين، مجتمعاً وجغرافيةً، من دون أية شعارات جوفاء وتطلعات هوائيّة، قد تؤدي في المحصلة إلى اقتلاعهم ومحقهم، وترديد القصائد القومية على أطلال بيوتهم ومدنهم وحيواتهم فيما بعد، مثلما يفعلون الآن في عفرين.