إقليم كردستان وبركان الهيجانات في المنطقة

4

عبدالباسط سيدا – الحياة

سألت صديقاً سويدياً، كان من بين الذين راقبوا استفتاء الاستقلال الذي أجري في إقليم كردستان العراق يوم 25 أيلول (سبتمبر) المنصرم، عن انطباعاته حول إجراءات سير عملية الاستفتاء، وعن توقعاته المستقبلية، وذلك من موقعه كخبير متابع للشأن العراقي والمنطقة منذ سنوات طويلة.

 

وبعيداً من حماس سكان الإقليم وقيادته، والكرد منهم خصوصاً، وبمنأى عن حملات التشكيك التي ظهرت من جانب حيدر العبادي وحكومته، والأغلبية الموجهة في البرلمان العراقي، والعديد من أنصاف المثقفين القومويين والأصوليين والمذهبيين، كان رأي الصديق السويدي أن القيادة الكردستانية ضربت الأرض بأقدامها، وتمسّكت بحقها المشروع، وهي مستعدة لتحمّل النتائج التي قد تكون باهظة التكاليف بكل أسف، وربما قد تصل إلى الحرب التي لا يريدها أي عاقل.

 

وحين انتقلنا إلى الحديث عن ردود الأفعال التي ظهرت لاحقاً على نتائج الاستفتاء من جانب الحكومة العراقية، ودول الجوار، خاصة تركيا وإيران، عبّر بمرارة عن امتعاضه واستنكاره، قائلاً: ما زالت عقلية القرون الوسطى هي التي تتحكّم بالممارسات السياسية في منطقتكم بكل أسف. ولم يسبق لأي شعب أن مارس حقه بمثل هذه الشفافية والدقة. ولم يسبق أن عرضت أي قيادة في منطقتكم على شعبها فرصة كهذه، ليعبر عن رأيه بمستقبله. إنها تجربة واعدة، ولكنها محفوفة بالأخطار ومعقدة. ولكنني بكل وضوح أقول: إنني مع قرار الشعب الكردستاني، أدعمه، وأقف إلى جانبه.

 

هذه شهادة من شهادات كثيرة عبّر عنها ممثلو منظمات المجتمع المدني الدولية، والمؤسسات الأكاديمية البحثية الذين كانوا في الإقليم لمتابعة سلامة العملية الاستفتائية، والتأكد من عدم وجود أي ضغط على الناس لإجبارهم على التصويت لمصلحة الاستقلال.

 

وقد أعلن الشعب الكردستاني بكل مكوناته عن رغبته الصريحة، وبما يشبه الإجماع، في الاستقلال. والكل يعلم أن هذا الاستفتاء هو مجرد بداية لعملية طويلة معقدة لم تتحدّد ملامحها بعد. ولكن مع ذلك استُنفرت القوى الإقليمية بكامل قواها، وكأن خطراً كارثياً حلّ بها، حتى أنها تجاوزت كل خلافاتها، واعلنت بصرحة عن تواصلها في ما بينها للتوافق على الإجراءات الزجرية المشتركة، وتطبيق العقوبات الجماعية بحق سكان الإقليم، والتهديد بالتدخل العسكري إذا ما لزم الأمر. وكل ذلك بالتزامن مع حملة إعلامية ديماغوجية، تستند إلى مزاعم وأباطيل مثل التهجير والتزوير وإرغام الناس على التوجه نحو صنادق الاستفتاء، وغير ذلك من الاتهامات التي باتت معروفة الطابع والوظيفة.

 

المسألة واضحة وضوح الشمس. شعب من حقه أن يقرر مصيره بنفسه، وقد أعلن عن ذلك بطريقة لا تشوبها أي شائبة. ولكن من جهة أخرى هناك سلطات تخشى من دواخلها، وليست مستعدة لمعالجة قضاياها الداخلية تحسباً للانعكاسات التي ستتأثر بها، فترى أن أفضل وسيلة، وأكثرها تأثيراً بالنسبة إليها، تتجسد في خنق إرادة الحرية لدى الكرد، ومعهم سائر المكونات المجتمعية الأخرى في كردستان العراق، بغية المصادرة على حقوق ملايين الكرد في الدول المجاورة.

 

إنها سياسة قديمة، تعود في جذورها إلى نحو خمسمئة عام، أيام الحروب والتوافقات بين الإمبراطوريتين العثمانية والصفوية، وقد اتخذت منحى جديداً بعد الحرب العالمية الأولى، مع تشكيل كل من العراق وسورية.

 

واللافت دائماً أن الدول المعنية بالمسالة الكردية تتجاوز بسرعة قياسية كل خلافاتها، وتعارض مصالحها، لتركّزعلى ما تعتبره الخطر المهدّد لها جميعها. والكرد من ناحيتهم حاولوا، ويحاولون، من دون جدوى، إقناع الأطراف الإقليمية، التي شاءت الظروف أن تتحكّم بقضيتهم، بإمكان حل كافة القضايا بالحوار والحكمة على أساس الاحترام المتبادل، والاعتراف بالحقوق والخصوصيات والمصالح، ولكنهم في كل مرة اصطدموا، ويصطدمون، بعقلية إنكارية، ثأرية توعدية.

 

إنه الخوف المتبادل الذي يتحكّم بالعلاقة بين الكرد وهذه الدول. خوف هذه الأخيرة باعثه الخشية من الاستحقاقات الداخلية، والخشية من فقدان المصالح والثروات. في حين أن خوف الكرد وجودي مصيري.

 

ووضعية كهذه لا تمكن معالجتها من دون إزالة الهواجس، وترسيخ قواعد الثقة المتبادلة، والتوافق على آلية لحل الخلافات. فالمشكلة الأساسية التي تتمحور حولها مختلف مشكلات منطقتنا تتمثل في عقلية عدم الاعتراف بالآخر المختلف. وهذه عقلية لها جذورها في مختلف مراحل تاريخنا.

 

إننا إذا سايرنا الأطراف الهائجة، وقلنا إن إقليم كردستان هدّد باستفتائه قواعد العيش المشترك بين المكونات العراقية وشعوب المنطقة، والواقع ليس كذلك ولكننا سنفترض ذلك، فلا بد أن نقر ونعترف في المقابل، بأن التصريحات والممارسات التي سمعناها وتابعناها هنا وهناك، ومن مختلف الجهات، تدمّر هذه القواعد، وتصادر على إمكان الحوار والتفاهم للوصول إلى قواسم مشتركة، من شأنها تعزيز الثقة، وتمهيد الأرضية المناسبة لعيش مشترك وفق أسس جديدة، تتناسب مع المعطيات الجديدة.

 

القضية الكردية لم تعد قضية محلية أو إقليمية، بل باتت جزءاً من معادلات التوازن الإقليمي الدولي في المنطقة. والجميع يدرك ذلك، لكن يبدو أن هناك رغبة لدى كل طرف في تعزيز مواقعه، استعداداً لما ستشهده المنطقة من متغيرات، ولا سيما في سورية والعراق واليمن، وارتباط كل ذلك بماهية التفاعل الإقليمي مع مستجدات الاستراتيجيات الدولية، وذلك في أجواء الحضور الروسي الكبير في سورية، مقابل الحضور الأميركي في كل من سورية والعراق.

 

ولكن مهما يكن، وعلى خلاف لغة التهديد، والوعيد، والتشكيك، والتخوين، والقدح، تحتاج منطقتنا إلى حوارات معمّقة لتناول كل القضايا التي تؤرقها، قضايا المكوّنات الدينية والقومية، قضايا التطرف والفساد والاستبداد، وغيرها. وباعتبار أن القضية الكردية هي موضوعنا هنا، نرى أنه آن الأوان للتعامل معها كقضية إقليمية ملحة، تستوجب حلاً عادلاً لمصلحة الجميع، وفي مقدمتهم الكرد بطبيعة الحال، باعتبارهم الحلقة الأضعف. فقد تعرضوا للكثير من الظلم والتغييب والتنكيل والمجازر نتيجة السياسات القوموية الإنكارية. أما أن تعود الدول المعنية إلى أدواتها وسياساتها القديمة للتعامل مع وضعية مستجدة مغايرة، فهذا مؤداه استمرار الصراع، واستنزاف الطاقات، الأمر الذي سيضع الجميع أمام خيارات صعبة مؤلمة.

Leave A Reply

Your email address will not be published.