ثلاث أصوليات في الثورة السورية

4

عمر قدور  – الحياة

عندما تُذكر الأصولية في سياق الحديث عن الوضع السوري الراهن، يبدو من البديهي انصراف الانتباه فوراً إلى التنظيمات الإسلامية بكافة أشكالها، فهذه التنظيمات تتبرع لنا بسهولة التصنيف، سواء على صعيد الأيديولوجيا المعلنة أو على صعيد الممارسة. في ما وصل إليه الوضع السوري، هذا يستتبع سهولة تلبيس التنظيمات الإسلامية المسؤولية الكاملة عن الفشل الحالي، ما يعفي فاعلين آخرين منها، أو يعفيهم من النقد.

 

في الواقع، إلى جوار تفرعات الأصولية الإسلامية، سنجد منذ السنة الأولى للثورة أصولية أخرى تزعم الانتساب إليها، على قاعدة ما يراه أصحاب هذه الأصولية نموذجاً لازماً مانعاً، لا يجوز للأحداث أن تحيد عنه. يختصر السوريون هؤلاء بأنهم أصحاب اللازمة المعروفة «ألم نقل لكم؟»، حيث مع كل خطأ يُرتكب باسم الثورة ينبري أولئك إلى الصراخ بأحقية ما نادوا به منذ البداية، على رغم أن ما نادوا به حقاً لم يتعدَّ رفضاً لبعض المسالك التي راحت فيها الثورة ومنها العسكرة. مجموعة الرفض هذه لم تقدّم يوماً برنامجاً واقعياً بديلاً، وبقيت أصولية «ألم نقل لكم» أصوليةً يمكن تعريفها سلباً فحسب، إلا إذا اعتبرنا تصوراتها الضبابية لتغيير سلمي تدريجي برنامجاً بالمعنى الإيجابي، وإن لم يكن هناك ما يسنده واقعياً، سواء من جهة تنظيم الأسد المعروف بوحشيته ورفضه أقل قدر من المشاركة، أو من جهة مناصرين كثر للثورة لا يؤمنون بتلك الطوبى.

 

منذ التدخل العسكري الروسي سنكون أمام أصولية أخرى، سمتها الأولى عدم فهم أو إنكار مدلولاته لجهة تلبيته رغبات دولية، وما سيُبنى على مرحلة عدم الفهم ومن ثم الإنكار هو التشبث بالأساليب السابقة كما هي، والمراهنة على تغيير ما في المواقف الدولية، خصوصاً الأميركية. لقد برزت بقوة كما نذكر تلك الفرضية التي تنص على توريط موسكو في المستنقع السوري، وظلت واردة في أوقات لم تتوقف فيها الأخيرة عن سياسة الأرض المحروقة على مختلف الجبهات السورية، بل ربما لا تزال ماثلة في أذهان البعض حتى الآن كنوع من المراهنة على مكر أميركي لا بد من وجوده.

 

مع هذا النوع من الأصولية الثورية ثمة ثبات على أن الثورة مستمرة، وأنها مستمرة بالأدوات ذاتها، وما حصل حتى الآن من انتكاسات مرده التخاذل الدولي أو الإقليمي. بمعنى أن النهجين السياسي والعسكري ليسا في قائمة النقد، يعزز من استبعادهما تهالك تنظيم الأسد ومشارفته على السقوط في أكثر من مناسبة قبل مجيء الدعم الروسي المباشر.

 

هنا قراءة تنطلق من مقدمة صحيحة هي استبعاد إسقاط التركيبة الأسدية ضمن نضال سلمي فقط، وربما فوقها استبعاد إسقاطه من دون موافقة ودعم خارجيين. إلا أن ما تغفله هذه القراءة وجود قرار دولي صارم بعدم إسقاط الأسد بالقوة، هذا فحوى الإعلان الدولي المبكر بأن الحل لن يكون إلا سياسياً، وينبغي استبعاد فرضية عدم فهم المجتمع الدولي واقع عدم تنحي الأسد سلماً وطوعاً. هكذا تصبح أصوليتنا أمام مأزق حاد بسبب تناقض المقدمتين الأساسيتين، والإصرار على الاستمرار فيهما تمثّلاً بالنموذج الليبي، ومن ثم الاقتراب أكثر من النموذج اليمني، لا يعكس سوى ترسيخ تصور وحيد عن الثورة وممكناتها، أي على النحو الذي حدث فعلاً.

 

هذا النوع من التفكير لا يلحظ أن زمام المبادرة صار منذ ثلاث سنوات في عهدة حلفاء الأسد، بينما كانت الفصائل والجبهات في انتظار مصيرها الواحدة تلو الأخرى، ليرافق المصير ما نعرفه من مشاعر القهر والعجز. واحد من مظاهر العجز هو التعويل الإجباري على بسالة مقاتلين محاصرين، لأنه ينتظر معجزة تخالف ميزان القوى الذي يفوق شجاعتهم، ولأنه لا يستبطن عجزاً أسبق منه عن التفكير والمبادرة الواقعيين. أما القول في كل مرة إن الأمر متروك لأصحاب الشأن، في كل منطقة على حدة، فهو يفضح ما هو معروف لجهة غياب استراتيجية عامة جامعة، إن لم نقل غياب استراتيجية وطنية.

 

ذلك كله يبدو عديم التأثير في سردية الثورة نفسها، فالفشل الماثل أمامنا لا يمس لدى هذه الفئة ثوابتها التي تبدو على النقيض من ثوابت الفئة الأولى، أي تلك التي تعتبر الثورة قد خرجت أصلاً عن لوحها المحفوظ وتستحق بسبب عقوقها أسوأ المآلات. إن واحداً من شروط استقرار الأصولية في الحالتين غياب السياسة، لا باعتبارها فن الممكن وفق تعريف يتم ابتذاله كثيراً ليستقر عند التسليم والهزيمة، وإنما باعتبارها أيضاً فن ابتكار الممكن والذي ربما كان قبل حين نوعاً من المغامرة أو المستحيل.

 

مع حالات الثبات والتثبيت على أفكار أو مرحلة، نستطيع القول إننا إزاء أصوليات بما يحتوي الوصف من مدلول منافٍ للثورة. وأن نجد مساحة واسعة للحديث عن أصوليات ضمن الثورة فذلك يعني أن نسبة عظمى لم تفارق أشهر التأسيس الأولى، وفي النطاق المفهومي لم تحدث مواكبة فاعلة لما تبقى من سنوات تُحسب لها أو عليها. هذا يتضمن كمّاً لا يُستهان به من النقد المجاني، ما دام قد بقي في الإطار النظري، أو بقي على الهامش بينما تُرك المتن لقوى الثبات.

 

الآن، يُخشى أن يطغى نقد الأصولية الإسلامية على التجربة بأكملها، فيكون المنفذ الأسهل ويتدنى بسويّته إلى حد تنزيه الذات. ومن المتوقع أن تبسيطاً كهذا قد يكون مقبولاً من جمهوره أسوة بتبسيط مقابل نراه في مقلب المظلومية الإسلامية، ربما مع اعتقاد يجمع جمهور الأصوليات كلها بفوات أوان النقد جراء الفشل.

 

اليوم لا يُختزل الواقع بانتصار عسكري يحققه حلفاء الأسد، ما دمنا في المقابل أسرى أصوليات تعيق التفكير. هذا يتعين بطول المدة التي انقضت منذ التوقف عن خلق وقائع جديدة من أي نوع، والإنكفاء أمام الوقائع التي يفرضها الخصوم على كافة الأصعدة. الخروج من الدوامة الحالية ليس سهلاً بالتأكيد، فضلاً عن الحواجز التي يصنعها الخوف من فشل جديد، بل إنه لا يُصدّق كما لو أخبرنا أحد عام 2010 أن كل هذا سيحدث.

Leave A Reply

Your email address will not be published.