في سياقات الأزمة السورية …؟!
تتطور الأوضاع الميدانيّة في سوريا، وفقا لأجندات القوى الإقليميّة والدولية وباتت هي تدير الأزمة بوسائل مختلفة وبما تتناسب مصالح كلا منها ويبدو أّنّ ما تتم من صفقات ومساومات غير معلنة هي التي تفعل فعلها وهي تجتهد وتفسر بيان جنيف ( 1 ) وفقا لمعاييرها دون أن تقدم على أي مشروع جدي وعملي لحل سياسي للأزمة القائمة في البلاد من شأنه إنهاء القتال ومعالجة آثاره وتشكيل هيئة حاكمة تفضي لدولة يشترك في صياغتها كل المكونات العرقية والدينية السورية.
ولهذا فشلت مساعي جامعة الدول العربيّة والأمم المتحدة ومؤتمر جنيف ( 2 ) ويترنح السيد دي ميستورا وهو يستغيث بالقوى المؤثرة لدعمه حتى يتمكن من عصف ” أفكار السوريين من المعارضة والنظام “من خلال ورشات عمله الأربع والتي هي بدورها وقبل البدء بها أصبحت مُثقِّلة بمئات الاسئلة والاستفسارات لابل تمّ رفضها من قبل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وهي الجهة التي حازت على اعتراف زهاء أكثر من مائة وعشرين دولة ويأتي في أعقاب كل ذلك تدخل روسيا عسكريا على خط القتال الدائر بعد اجتماعات مكثفة عقدت على هامش اجتماعات الهيئة العامة للأمم المتحدة بين دول معنية بالأزمة السورية ،رافقتها تكهنات بالوصول إلى تفاهمات من شأنها اتخاذ خطوات للسير نحو الحل وصدرت تصريحات من مسؤوليها أبدَوا المرونة في مسألة بقاء بشار الأسد في الحكم خلال المرحلة الانتقالية وأيضا الإبقاء على مؤسسات الجيش والأمن مقابل العمل معا في مواجهة داعش والقوى المشابهة لها.
كل المعطيات على أرض الواقع تشير- وعلى الرغم من الضجة المثارة حول التدخل الروسي – بأنّ ثمَّة تنسيق وتفاهمات بين عدة دول ذات ومنها ستتشكل مجموعة عمل دولية للعمل معا في المسار السوري وأنّ الأولوية بالنسبة لهم هي محاربة التنظيمات الجهادية وليس داعش فحسب، بالتوازي مع جمع المعارضة السورية التي لم تعد محصورة على الائتلاف فقط، بل من قوى مختلفة مع ممثلين عن النظام في سياق الترتيبات المستقبلية وإنشاء هيئة حكم انتقاليّة ستشرف على الخطوات اللاحقة وفقاً لمبدأ أنّ لا غالب ولا مغلوب وتوحيد كل الفصائل المُسلَّحة التي تتفق في محاربة داعش والنصرة وكل التنظيمات المشابهة لهما والتنسيق مع الجيش السوري بكافة تشكيلاته النظامية لهذه الغاية.
وفي ظل المشهد الحالي، فأنّ كل المؤشرات تدل على أن سوريا المستقبل لن تبقى كما كانت في السابق وهي ستصاغ جمهورية جديدة، ستكون لامركزية سواءً أكانت إداريّة أم سياسيّة وهو ما يؤكد عليه مختلف قوى المعارضة علاوةً على ذلك فثمّة إصرار دولي على ضمان حقوق الأقليات في البلاد، مما يستوجب على القوى الوطنية المعارضة التوافق على صيغة موحدة للتسوية متفقة حولها لأن النظام لديه تصوراته الموحدة والتي تنطلق، حتى الآن، من التشبث بالسلطة ويلبي مصالح دولية مختلفة ويمتلك مفاتيح الدولة التي تحرص القوى الدولية بالمحافظة على مؤسساتها وهيكلها بالإضافة لعوامل أخرى كثيرة.
وفي هذا السياق، فقد اتفقت بعض قوى المعارضة الوطنية على خطة التسوية للحل السياسي في البلاد، لكن ما لم يتم الاتفاق حوله هو حقوق المكونات القومية وفق العهود والمواثيق الدولية في إطار الدولة السورية المستقبلية وبقي حتى الآن مثار جدل واسع ولاسيما من قبل الايديولوجيين المتشددين من القوميين العرب والاسلاميين الذين لا يقبلون بسوريا اتحادية متعددة القوميات والأديان، بل يريدون إعطاء الصبغة القومية العروبية لها والإقرار ببعض الحقوق للمكونات العرقية الأخرى وعلى مضض ويربطونه بموافقة البرلمان المنتخب القادم بعد خلاص سوريا من الديكتاتورية وتحت مسمى “قانون السيادة الوطنية ” أو عبر صياغات انشائية تؤدي نفس الغرض بعبارات فضفاضة وعامة قابلة للتأويل والاجتهاد مما يبقى الباب مفتوحا كي تعود سوريا لمربع الاستبداد وإقصاء الآخرين في مرحلة لاحقة متى سنحت الفرصة لهم بذلك.
لذا، فأن على القوى التي تؤمن بوجوب أن تكون سوريا دولة اتحادية متعددة القوميات بنظام حكم ديمقراطي علماني العمل معا كفريق واحد سواء عند الاشتراك بورشات عمل دي ميستورا أو ما يتم التخطيط له من عقد مؤتمرات وطنية في سياق المرحلة الانتقالية لوضع دستور توافقي يضمن حقوق المواطنين بمختلف انتماءاتهم العرقية والدينية مما يتطلب، ومنذ الآن، الخوض في حوارات مُعمَّقة بين مختلف القوى المعارضة بعيداً عن المجاملات والقفز عن الحقائق ونبذ أي توجه يبغي الاستئثار والاحادية في الرؤى عرقية أو دينية.
إنّ الوضع السوري الحالي، بتداعياته المأساوية الاليمة على حياة المواطنين، يوجب على الجميع الاستمرار بالعمل ضمن الصيغ المبنية على المشتركات، التي من شأنها عدم الاضرار بالعمل المعارض لأنهاء النظام الاستبدادي والديكتاتورية والالتفاف حول خارطة طريق واحدة للتسوية، هذا كإطار ائتلافي عام، لكن العمل بجدية وبالتوازي مع ذلك لبناء تحالفات برؤية واضحة حول شكل الدولة المستقبلية، تتفق وتؤكد على بناء دولة علمانيّة اتحادية متعددة القوميات، يتمتع فيها كل الأعراق والأديان بحقوقهم دون مفاضلة مكون على آخر وبأن هوية الدولة السورية تستمد من الشعب السوري جميعاً، وأن لا عودة لسوريا الاستبداد وحكم الحزب الواحد.
أخيرا، فإّن تطورات الأوضاع خلال السنين الأربعة الماضية والتحولات التي حدثت ومنها تخطي سلمية الثورة وحمل السلاح ودخول أطراف عديدة بالمعادلة السورية، تؤكد أهمية الانخراط في “تسوية سياسية” تنهي الحالة القائمة وتداعياتها الخطيرة على الوطن والمواطن وأنه لابد من إجراء مراجعة شاملة لمختلف الرؤى والتصورات السابقة التي كانت معمولة بها في مراحل سابقة ولم تكن ذا جدوى على الصعيد العملي.
فيصل يوسف